وإلا سنكون قد دنسنا قرآننا قبل أن يدنسه الاخرون
تشكل مقدسات الشعوب والأمم عنوان حضارتها وجسراً بين ماضيها وحاضرها بجميع ما تعنيه تلك المقدسات من قيم ومثل ومبادئ ما يجعلها تنصهر في وجدان الشعوب وتحل فيه محل الروح للجسد. لذلك كان التعرض والمساس بمقدسات أي أمة يعد اعتداءً على كرامتها واستخفافاً بحضارتها. وعليه لم يكن مستغرباً أن يخرج عشرات الآلاف من المسلمين في مظاهرات احتجاجية على خلفية تدنيس القرآن الكريم من قبل محققين أمريكيين في معتقل غوانتنامو، مطالبين بتحقيقٍ عاجل في هذه الحادثة وإنزال أشد العقاب على من يقف ورائها.
هذا الاستخفاف بمشاعر ومقدسات المسلمين لم يكن الأول من نوعه ولا أظنه سيكون الأخير، ولا أجدني مضطراً لذكر الأمثلة فبتُّ أراهن على أنها من الكثرة بمكان ما جعلها حاضرة في ذاكرة كل مسلم، فلا نكاد ننسى حادثة إلا تهيئنا لاستقبال الأخرى.
لقد اعتدنا النظر لكل ما يتهددنا من أخطار أو تحديات بمنظار «العدو الخارجي» تلك الاسطوانة المشروخة التي ألفتنا وألفناها مع كل مصيبة. فأصبحنا نتعبد الله بـ«نظرية المؤامرة» مع كل مشكلة أو أزمة تواجهنا، مغفلين الأسباب الحقيقية والموضوعية للمشكلة والتي يجدر بنا معالجتها لا الهروب منها.
لكل فعل ردة فعل
في مارس من عام 2001 م وبالرغم من المناشدات الدولية والإسلامية، أقدمت حركة «طالبان» الحاكمة في أفغانستان آنذاك على تدمير أضخم تمثالين لبوذا في العالم ضاربة بعرض الحائط مشاعر ومقدسات أكثر من مليار بوذي في العالم! ناهيك عن تدميرها لتراث يرجع تاريخه إلى ما قبل الإسلام بخمس قرون ويعتبر من أروع معالم الحضارة الأفغانية القديمة، وذلك بدعوى «أنها أصنام تفتن المسلمين عن دينهم» حسب تصريح وزير خارجية طالبان وكيل أحمد متوكل !!. على أثر ذلك انطلقت مظاهرات حاشدة في الهند أحرق فيها متطرفون هندوس نسخاً من القرآن الكريم.
وفي حادثة لم تمض عليها سوى شهور قلائل صعق العالم أواخر أغسطس من عام 2004م بمشهد مروع لذبح إثني عشر عاملاً نيبالياً وبدم بارد في العراق، فقد أعلنت الهيئة العسكرية لما يسمى بأنصار السنة في بيان متلفز مسؤوليتها عن هذه المذبحة البشعة:
«قمنا بفضل الله تعالى بتنفيذ حكم الله في 12 نيبالياً جاءوا من بلادهم مستعينين بإلههم بوذا من أجل محاربة المسلمين في هذه البلاد خدمة لليهود والنصارى وأحفاد القردة والخنازير»!
بهذه الكلمات وباسم الإسلام وقربة إلى الله تعالى تمت شرعنة ذبح هؤلاء النيباليين الفقراء اللذين جاءوا للعمل كطهاة وعمّال نظافة لدى إحدى الشركات في العراق، ما أثار سخط الشعب النيبالي فخرج في مظاهرات غاضبة بشوارع العاصمة النيبالية «كاتماندو» أحرق فيها أكبر مساجد العاصمة إضافة إلى إحراق القرآن الكريم وتدنيسه.
هنا يجدر بنا الإشارة الى أنه من المسلمات بل البدهيات لدى كل مطلع على تعاليم الإسلام أن الله سبحانه وتعالى قد نهانا ليس فقط عن الاعتداء على مقدسات الغير بل ماهو أقل من ذلك بكثير إذ قال جل وعلا: ﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾ [1] ، فحتى هذا المستوى من «التجاوز» على كرامة وخصوصيات الآخرين يعد مرفوضاً تماماً لدى الشارع المقدس، بالنظر إلى ما يترتب على هذا التصرف من ردة فعل عكسية قد تنال من الذات الإلهية المقدسة.
فمابالك إذا بلغ التعدى إلى انتهاك الحرمات واستباحة الدماء فذلك مما عده سبحانه وتعالى قتلاً للناس جميعاً: ﴿ من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا ﴾ [2] .
فغني عن القول اننا حين نستعدي علينا شعوب الأرض ولا نقيم وزناً ولا احتراماً لدمائهم ومقدساتهم، أنه من العار علينا مطالبتهم باحترام مقدساتنا ورموزنا. إذ كيف نطالب بإنزال أشد العقوبة في من دنس قرآننا ونحن ندنس ونستبيح حرمات ومقدسات الآخرين باسم الدين والقرآن؟! فاستحكام حالة العداء لكل ما هو إسلامي لم تأتِ من عدم بل هي نتيجة طبيعية وردة فعل تجاه ما يمارس من استخفاف بدماء ومقدسات الشعوب تحت مظلة الدين وباسم الإسلام.
مسلمون يذبحون باسم الاسلام!
إن ما سبق يجرنا للحديث عن زاوية أخرى لا تقل أهمية وحساسية، بما تمثل حجر الزاوية في تكريس حالة العداء وبث روح الكراهية لكل ماهو آخر، تلك تكمن في آفة التكفير والتي تعدّ بنظرنا أحد أخطر الأمراض التي تعيشها الأمة الإسلامية، فقد خرج علينا من تلبس برداء الدين وأخذ بتوزيع «أوسمة» الكفر والردة على المسلمين بالجملة دون أي وازع أو ضابط شرعي سليم. فالشقي الشقي من نال هذا «الوسام» إذ أن دمه وماله وعرضه أصبح مباحاً وما عليه سوى انتظار أحد «المجاهدين» لينفذ حكم الله فيه!!
آفة التكفير هذه كانت حاضرة بأبشع صورها حاصدة آلاف الضحايا في الجزائر وأفغانستان و السعودية والعراق وغيرها من البلدان الإسلامية. فالعالم بأسره شاهد كيف كان يذبح النساء والأطفال والشيوخ بدم بارد في الجزائر لا لذنب سوى أنهم لا ذنب لهم؟! وفي العراق لا يكاد يمر يوم إلا واصطبغ بدم الأبرياء من شعب العراق بدعوى مقاومة المحتل الأمريكي، تلك المقاومة التي لا تميز سياراتها المفخخة بين المحتل وبين المواطن العراقي، حصدت من العراقيين أضعاف أضعاف ما حصدته من المحتل، باسم الدين والإسلام!
بهذه الصورة البشعة نقدِّم للعالم نموذجاً للإسلام والمسلمين... إسلام لا يحترم دماء ومقدسات الآخرين... إسلام يكفر ويقتل أبنائه بعضهم البعض باسم الدين. وبعدها نتبجح ونطالب باحترامنا واحترام ديننا وإسلامنا!.
أين المشكلة؟
لقد وضع الرسول الأكرم يده على المشكلة قبل 1400 عام حين قال: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون الكلام ويسيئون العمل، يدعون الى كتاب الله عز وجل وليسوا منه في شيء، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون اليه حتى يرتد على فُوقِه، هم شر الخلق والخليقة» [3]
لقد سُخرت لهذه الفئة المتطرفة من خوارج العصر العديد من المنابر الإعلامية من فضائيات وصحف ومواقع على الإنترنت، وبدعم سخي، فاصبحت هي الصوت الأعلى والأبرز والناطق الرسمي باسم الإسلام والمسلمين، ما جعلها تختطف الإسلام وتقدمه للعالم على أنه دين قتلة وسفاحين لا يقيم وزناً لكل من يختلف معه في دين أو عقيدة أو رأي.
إن السماح لهؤلاء الخوارج بنشر فكرهم المنحرف يعد خطراً على الأمة الإسلامية يستدعي تحركاً عاجلاً من قبل جميع الحكومات الإسلامية والمؤسسات الاجتماعية والفكرية، يتناسب وحجم التحدي الذي يتهدد الأمة، فلا تكفي الاستنكارات المترددة الخجولة في علاج هذه الأزمة بل يجب التحرك بشكل جدي من خلال:
1. نشر تعاليم الإسلام الصحيحة التي تدعو للتعايش والسلام واحترام الإنسان لإنسانيته لا لدينه، وذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة من فضائيات وصحف ومعارض ومواقع.
2. تجفيف مصادر الدعم المادي التي تتمتع بها هذه الفئة المنحرفة، إذ أن فكراً بهذه الضحالة ما كان لينتشر لولا توافر الإغراء المادي، فلطالما زرع التطرف من خلال البطون الجائعة.
3. وقف عملية غسل الأدمغة التي فرخت لنا خوارج على امتداد قرون عديدة وذلك بغربلة الأسس الفكرية المنحرفة التي تكرس حالة العداء لكل ما هو مختلف.
خاتمة
لو حفظ المسلمون قرآنهم في قلوبهم لانعكس ذلك على سلوكهم وطريقة تعاملهم مع أنفسهم قبل غيرهم، ولفرض المسلمون احترام مقدساتهم ورموزهم على الآخرين باحترامهم لمقدسات ورموز مخالفيهم.
قبل أن ننظم مظاهرة احتجاج على تدنيس القرآن الكريم حري بنا التظاهر احتجاجاً على الصورة النمطية الخاطئة التي يسعى المتأسلمون عبرها لتشويه الإسلام والمسلمين. وإلا سنكون قد دنسنا قرآننا قبل أن يدنسه الاخرون.