مدرسة التربية والفضيلة

شبكة مزن الثقافية شهـر رمضـان بصائر وأحكام - للإمام المدرسي دامت بركاته
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله

 
شهر رمضان هو مدرسة تربوية، شريطة أن ينظر إليها الإنسان كمدرسة يتعلم فيها القيم والمبادئ الأخلاقية والروحية. أما الذي يدخل هذا الشهر الكريم كما يدخل أي شهر آخر، فانه سوف لا يصبح بالنسبة إليه مدرسة، بل قد يسبب له انتكاسة وهبوطاً في المستوى الروحي بدلاً من أن يدفعه إلى الأمام.

  •  مدرسة التقوى

هذه الحقيقة هي الحقيقة المهمة التي يجب أن ندركها في هذا الشهر الفضيل؛ فالصيام هو - بحد ذاته - مدرسة، لأنه يربي في الإنسان الإرادة، ويزوده فوق ذلك بصفة التقوى، هذه الصفة التي لو امتلكها الإنسان وتسلح بها لاستطاع أن يقاوم ضغط الشهوات، وضغط المجتمع..
والتقـوى هي أعظم سلاح بيـد الإنسـان، يستطيع بواسطتـه أن يسخر الطبيعة ويذللها له. يقول القرآن الكريم:
?يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? (البقرة، 183)
فالهدف من الصيام هو تنمية ملكة التقوى في نفس الإنسان، ولكن هل بإمكان الإنسان أن ينتفع من الصيام دون أن يسعى من أجل الحصول على هذه الصفة المثالية؟

الجواب: لا، بالطبع. فالذين يصومون دون أن يخلصوا لله تعالى عبادتهم، ودون أن يوحوا إلى أنفسهم بالدافع الحقيقي إلى الصوم، ويصومون دون أن يتورعوا في أيام وساعات صومهم ويوم إفطارهم.. فان مثل هؤلاء لا يمكن أن يستفيدوا من شهر رمضان الفائدة المرجوّة، كما جاء في الحديث الشريف: " كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش ".11

  •  ربيع الدعاء

بالإضافة إلى ذلك فان شهر رمضان المبارك هو ربيع الدعاء، والدعاء هو مدرسة للإنسان يستطيع من خلال التتلمذ فيها أن يسمو إلى أعلى عليين بأن يصقل ذاته، ويبلور مواهبه، ويتعرف على الطاقات الكامنة في نفسه ليستخرج كنوزها من خلال الدعاء.

فلو تدبر الإنسان المسلم في أدعية شهر رمضان المبارك، لحصل لـه جزء لا يستهان به من معرفة الله سبحانه وتعالى.

فأدعية شهر رمضان، وخصوصاً دعاء الافتتاح تزودنا بمعرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة صفاته وأسمائه إذا ما تلوناها بتدبر وتمعّن. أما إذا قرأنا الأدعية دون أن نتوجه إلى معانيها ونتدبر فيها، ودون أن نتعمق في كلماتها وأصولها، ويسودنا الشعور بأننا نقف أمام خالقنا ومن بيده أمرنا ومصائرنا، فان قراءة هذه الأدعية سوف تصبح بالنسبة إلينا كقراءة الصحف والقصص، وحينئد سوف لا يكون الدعاء مدرسة لنا.

فلننظر في شهر رمضان الكريم: كم درجة من التقوى ارتقينا؟ وكم مرتبة من الإيمان ارتفعنا؟ وليكن جهد الواحد منا منصباً على الحصول على درجات أعلى. وهذا لا يمكن إلاّ من خلال السعي المكثف، وقراءة الآيات القرآنية. فالقرآن هو مدرسة الإنسان، وهو الذي يربيه يرفعه إلى مصاف الملائكة. فهو يفتح أمام الإنسان آفاقاً لاتحد شريطة أن يقرأه قراءة تدبر وتفكر واستلهام واستيحاء، لا أن يقرأه وقلبه مقفل بالأغلال كما يقول عز وجل: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُها ? (محمد،24)

فقبل كل شئ، علينا أن نفتح هذه الأقفال من قلوبنا، ونخرجها من القوقعة التي وضعناها فيها، هذه القوقعة التي يطلق عليها القرآن الكريم اسم (الغلف) في قوله عز وجل: ?وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? (البقرة، 88)؛ أي إن قلوب هؤلاء قد وضعت في ما يشبه (القمقم) ثم انغلق هذا القمقم عليها فهي لا تخرج منه، فالقلب الذي ينغلق بالشهوات ويصبح سجين الأوهام والخرافات لا يمكنه أن يفهم شيئاً من الحقائق. فهو ينظر إلى القرآن من زاوية هذه الشهوات والأهواء، وعبر منظار الأوهام والخرافات. وهذه حقيقة ملموسة لا سبيل إلى إنكارها.

  •  تفسير حسب الأهواء

وللأسف فإن البعض من الناس يفسرون الآيات القرآنية حسب أهوائهم، لأنهم يعيشون في جو هذه الأهواء دون أن يشعروا، ودون أن يعرفـوا انهم يعبدون أصنام أنفسهـم. فهناك البعض يعبدونـه حقـاً، ولكنهـم عندما يموتون ويستيقظون على الحقيقة المرة، فان يقظتهم هذه سوف لا تنفعهم شيئا، وسوف لا ينفعهم قولهم: ? رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ?، لان الله تعالى سوف يجيبهم قائلاً: ?كَلآَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ? (المؤمنون،99- 100 )


وإذا ما أردنا أن نمثل شهر رمضان المبارك بمدرسة، قلنا إن الصوم يمثل فصلاً من هذه المدرسة، ولا يمكن دخولنا فيها عبر مجرد صيامنا، أو تلاوتنا للقرآن فقط، أو قراءتنا للأدعية فحسب. بل لنحاول أن نجعل صيامنا صيام تقوى، وقراءاتنا للأدعية قراءة نستهدف من ورائها تحصيل معرفة الله عز وجل، وذلك من خلال مناجاته. فنحن لا نستطيع أن نقتصر في معرفة الخالق تعالى على الأدلة النظرية، بل يجب ان نتعرف عليه بقلوبنا ليتجلى لنا. وقد جاء في الحديث الشريف: " ان الله قد تجلى لعباده في كتابه ولكن اكثر الناس لا يبصرون ". فالقرآن الكريم هو تجل لذات الله عز وجل، وما علينا إلاّ أن نحاول أن نجد ربنا في ثنايا الآيات القرآنية.

  •  الاعتراف بالنواقص

وبالتالي فان علينا أن ندخل هذه المدرسة المتكاملة، لكن نزكي أنفسنا من خلال معرفة الله، وقراءة القرآن.
وتزكية الإنسان لنفسه تعني أولاً أن نعترف سلفاً بأن لنا أخطاء وفينا نواقص. فالإنسان الذي يرى سلفا انه كامل، ومعصوم من الزلل، فانه لا يستطيع أن يزكي نفسه. فعلينا - إذن - قبل كل شئ أن نعترف بنواقصنا، ونبحث عنها، مثل النقص في الايمان، والنقص في الإرادة وسائر الصفات الأخرى من قبيل صفة الصدق. فالكثير منا يحسب نفسه صادقاً، ولكنه عند العمل يكتشف انه ليس صادقاً بما فيه الكفاية. فعندما يُسأل هل كان صادقاً أم كاذباً عندما انتقد فلاناً من الناس، وهل كان انتقاده هذا من وحي إيمانه وعقله وعلمه أم كان بدافع الشهوات والأهواء؟ فانه سرعان ما يجيب انه كان صادقاً ومخلصاً في انتقاده، في حين انه لم يكن كذلك في الحقيقة.

وهكذا فان المهم أن نعرف أخطاءنا، وأن نكتشف تلك الثغرات الموجودة في ذواتنا، وخصوصاً خلال شهر رمضان الذي يعتبر فرصة ذهبية لإصلاح الإنسان لنفسه. أما إذا انتهى هذا الشهر دون أن نوفق لإصلاح العيوب والنواقص، فإنها سوف تتكرس في ذاتنا. فالإنسان الذي يعاني من مرض نفسي ثم يقرأ القرآن، ولا يحاول أن يتسفيد من القرآن شفاءً لمرضه، فان مثل هذا الإنسان يحمل في صدره قلباً قاسياً يقاوم الهداية والخير والنور.

وللأسف فان هناك من بيننا من اتبع الجاهلية، ولذلك فهو يقرأ القرآن دون أن يتأثر قلبه، وكأن هذا القلب تحول إلى حجارة.

إن العمل الصالح هو الذي يجعل قلوبنا أوعية صالحة لدرك حقائق القرآن الكريم، فلا يستطيع الواحد منا أن يصل إلى مستوى من الوعي والتقوى إلا من خلال العمل الصالح، وإلاّ فمن المستحيل أن يجعل الله سبحانه وتعالى ذلك الذي لم يعمل الصالحات في مستوى واحد مع ذلك الذي اجتهد وعمل في شهر رمضان. فالله عز وجل إنما خلق السماوات والأرض بمقياس الحق، وأعطى لكل ذي حق حقه. أما أن يتفضّل تعالى على الإنسان عبثاً، ومن دون عمل واجتهاد، فان هذه فكرة باطلة.

وبناء على ذلك، فان علينا أن نعوِّد أنفسنا على الكدح والتعب، وعلى مقاومة جاذبية الراحة، والشهوات. فعلينا أن نتحرر من هذه الجاذبية ونبتعد عنها، وشهر رمضان المبارك هو افضل فرصة لذلك.

وعلينا أن نتذكر في هذا المجال أننا لا نستطيع أن نخترق الحاجز النفسي في قلوبنا حتى لو حصلنا على الوعي، والثقافة الرسالية السياسية. فهذه الأشياء وحدها لا تكفي، فالإيمان على نوعين؛ مستقر، ومستودع. والإيمان المستقر هو الذي يدخل القلب، ويخترق الحواجز النفسية. ولذلك فإننا نقرأ في أحد أدعية شهر شعبان: "اللهم صل على محمد وآل محمد واعمر قلبي بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك "12. فالطاعة الحقيقية هي التي تدخل في القلب، وتعمره.

أما النوع الآخر من الايمان، فهو الايمان المستودع الذي يشبه الأمانة التي يجب أن تسترد من المؤتمن عليها. ومن المعلوم ان مثل هذا الايمان، من الممكن في أية لحظة أن يسترد منا.

  •  لا نجاح للعمل بدون تزكية

وهكذا فان الايمان يجب أن يكون حقيقياً، والتزكية ذاتية، وإلاّ فان العمل لا يمكن أن ينجح، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال: " إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق ".13 فلولا اكتمال الأخلاق الحسنة لدى الإنسان، وبلوغه مستوى أخلاقياً يستطيع من خلاله أن يقابل الضغوط، لما كان قادراً على أن يعمل في سبيل تزكية الذات.

ولا بأس في هذا المجال أن ننقل للقارئ الكريم بعضاً من الأحاديث والروايات عن المعصومين حول تزكية النفس، والجد والاجتهاد على هذا الصعيد، فقد روي في هذا الصدد أن قيس بن عاصم قال: وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي فدخلت وعنده الصلصال بن الدلهمش فقالت: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نعبر في البرية. فقال رسول الله : " يا قيس إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً ".14
وكلمات الرسول هذه واضحة. فالدنيا هي تركيبة من الحقائق؛ فبعد الحياة موت، وبعد العز ذل، والعمل وراءه حساب، فنحن لا نستطيع أن ننكر هذه الحقائق، فالأولى بنا - إذن - أن نركب أنفسنا وعقولنا على مقياس الحقائق الكونية، فلماذا نبالغ ونكابر؟ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرنا بان هذه الحقائق موجودة، فليس من الصحيح أن ننكرها، ونحاول أن نهرب منها.

وروى الإمام الصادق عن النبي قوله: "طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله، فحسن منقلبه إذ رضي عنه ربه عز وجل. وويل لمن طال عمره وساء عمله، فساء منقلبه إذ سخط عليه ربه عز وجل "15.

وهكذا فان الإنسان المسلم لا يمتلك في حياته سوى بضعة اشهر من رمضان، وهو مع ذلك لا يعرف هل سيعيش في الشهر القادم أم لا. فهناك الكثير ممن طواهم الموت قبل فترة قصيرة وقد كانوا يحسبون انهم سيعيشون رمضان، والبعض منهم كان قريباً من هذا الشهر، وكان قد وضع لنفسه برنامجاً فيه، ولكن المنية عاجلتهم. ولذلك فان على الإنسان أن يسعى ويبذل جهده، وأن يقاوم الوساوس الشيطانية التي تحاول أن تثبطه. فالشيطان يغوي الإنسان، ولا يريد له الخير، ويحاول أن يسحبه إلى الأرض، ويغله بأغلالها. وقد يكون هذا الشيطان إبليساً لا يستطيع الإنسان رؤيته، وقد يكون إنسياً تراه؛ فهو قد يوسوس لك من خلال صاحبك، فيضلك عن الطريق.

ولذلك يؤكد القرآن الكريم على هذا المعنى قائلاً في سورة (الناس): ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ? .

فهنالك أناس هم في الظاهر معك، ولكنهم في الحقيقة شياطين يحاولون أن يضلوك ويغووك ويحرفوك عن جادة الحق تحقيقاً لأهدافهم الخبيثة.

  •  بذل الجهد هو المقياس

فليكن لدينا مقياس، وهذا المقياس هو أن نبذل كل جهدنا، وأن لا ندخر وسعاً إلاّ وبذلناه في سبيل الوصول إلى أهدافنا وأمانينا التي من أهمها تزكية النفس، وتنمية المواهب الخيرة فيها، وتصفية الذات من الشهوات، وتقوية الإرادة.. وهذه هي الأهداف البعيدة المدى، التي نرجو تحققها في شهر رمضان الفضيل.

وإذا ما وهنّا وانهزمنا نفسياً، وإذا تصورنا أننا لا نستطيع أن نخرق حجب ذواتنا، ونصل إلى معادن النور، فلنحاول -حينئذ- أن نتضرع إلى الله جلت أسماؤه، وأن نتوسل إليه، ونتكل عليه. فهو تعالى قادر على أن ينتشلنا من تلك الحالة النفسية السلبية، وأن يرفعنا إلى أعلى عليين بقدرته التي خلق بها السماوات والأرض. ولذلك فان علينا دائماً أن نرغب إلى الله، ونتوسل إليه في دعائنا لكي نجد الخشوع في أنفسنا، وتجري الدموع من أعيننا، وحينئذ سوف تتفتح أمامنا أبواب السماء، لتنهمر منها الرحمة الإلهية الواسعة.