نحو ثقافة قرآنية (15)

شكل الحركة الاجتماعية

 
تتخذ حركة المجتمع وسيرورته أحد أشكال ثلاثة:

1- الحركة الصاعدة:

وهي حركة سير نحو الأعلى، مرتبطة بعناصر بقاء يحافظ عليها المجتمع ليستمر (عوامل بقاء)، أو عناصر قوة يأخذ بها ليرتقي ويرتفع شأوه (عوامل نهوض).

ومن باب السير السنني السببي يكدس المجتمع في ذاته عناصر القوة والرقي، ويراكمها، كالقوة الفكرية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الإدارية التنظيمية، ويجعل من تلك العناصر درجات ومراقي للصعود والتقدم.

وهنا تتصف حركة المجتمع بأنّها تصاعدية/ تعاقبية/ تطورية.

وقد ذكر القرآن الكريم مثالاً لهذه الحركة الاجتماعية: قوم النبي يونس ، الذين كانوا على وشك الدمار والسقوط وحلول العذاب، لكنّ عاملاً هاماً دخل في المعادلة الاجتماعية، وكان سبب صعود المجتمع ورقيّه، ذاك السبب هو: الإيمان بالله:

﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(1)، ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(2).

2- الحركة الهابطة:

وهي حركة سير نحو الأسفل، أي أنّها حركة انحدار وسقوط، سببها: الأخذ بعناصر الضعف والتحلل (عوامل هدم وسقوط)، يشهد المجتمع معها الانحدار حتى يغيب عن مسرح التاريخ.

وهنا يختزن المجتمع في بنيته الاجتماعية عناصر الضعف الفكري، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو السياسي، أو الإداري التنظيمي، ويجعل من هذه العناصر دركات للسقوط.

وتتصف حركة المجتمع هنا بأنّها حركة هابطة/ تسافلية/ نكوصية/ ارتدادية.
 
ومن الأمثلة القرآنية لهذه الحركة:

ـ حضارة سبأ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ(3).

ـ أهل الثرثار: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(43).

وفي توضيح السياق التاريخي لهذا المجتمع يقول الإمام الصادق : "إنّ قوماً أُفرغت عليهم النعمة - وهم أهل الثرثار -، فعمدوا إلى مخّ الحنطة، فجعلوه خبزاً هجاء، وجعلوا ينجون به صبيانهم؛ حتى اجتمع من ذلك جبل عظيم.

قال: فمرّ بهم رجل صالح، وإذا امرأة تفعل ذلك بصبي لها، فقال لهم: ويحكم، اتقوا الله ـ عزّ وجلّ ـ، ولا تغيّروا ما بكم من نعمة. فقالت له: كأنّك تخوّفنا بالجوع، أما ما دام ثرثارُنا يجري فإنّا لا نخاف الجوع.

قال: فأسف الله ـ عزّ وجلّ ـ، فأضعف لهم [نهر] الثرثار، وحبس عنهم قطر السماء ونبات الأرض - قال -: فاحتاجوا إلى ذلك الجبل، وإنّه كان يقسم بينهم بالميزان"(5).

3- الحركة الدائرة:

 وهي حركة تراوح مكانها، وتتخبّط في التيه والضلال (متاهة).

والمجتمع هنا يعيش حالة من الغبش الرؤيوي والتردد العملي، تشلّ حركته، وتعيقه عن الصعود، أو يتقدم خطوة، ويتراجع أخرى؛ ليعود إلى مربعه الأول، وتبقى حركته اهتزازية/ مضطربة/ لولبية أو دائرية.

والمثال القرآني البارز لهذه الحركة الاجتماعية هم مجتمع بني إسرائيل في سيناء:

﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(6).

هل يلزم أن تكون حركة المجتمع تصاعدية؟

ما سبق من صور مختلفة لحركة المجتمع يفيدنا أنّ الصورة المتحققة لمجتمع لا تبقى على حالها مدى الدهر، بل.. تخضع لعنصر الحركة (الحِراك الاجتماعي)، وأنّ حركتها ليست (تصاعدية/ تعاقبية/ تطورية) بالضرورة، بل قد تكون (هابطة/ تسافلية/ نكوصية/ ارتدادية)، أو (اهتزازية/ مضطربة/ لولبية أو دائرية)، وبناء على نوع الحركة قد يكون المجتمع سائراً نحو الأعلى، أو نحو الأسفل، أو في حركة قلقة تسير برهة، ثمّ لا تلبث أن تعود وتنتكس، فيتذبذب المجتمع فيها بين صعود وهبوط.

وقد يمثل مجتمع ما.. في زمن ما.. حركة صاعدة، وفي زمن آخر حركة هابطة، وفي زمن ثالث حركة دائرة.

فهناك أسباب للرقي، وهناك أسباب للبقاء، وهناك أسباب للسقوط.

والمجتمعات لكي ترتقي تحتاج إلى التمسّك بحبل العلو ليشدها إلى الأعلى، ولكي تبقى تحتاج إلى عمل وحركة، تماماً كرجل (السيرك) الذي ما لم يتحرّك لن يستطيع حفظ توازنه، وإذا لم تدعم قوتها فستتحلل شيئاً فشيئاً، ثمّ تكبو.. وتموت، وإذا سكنت المجتمعات فستكون كالجيفة التي تعمل فيها عوامل التفسّخ والتحلل، وأما إذا أخذت بعوامل السقوط، فستكون كمن تسنّم ذروة جبل، ثم وهب رجله للريح لتهوي به في مكان سحيق..

(1) سورة يونس، الآية 98.
(2) سورة الصافات، الآية 147ـ 148.
(3) سورة سبأ، الآية 15ـ 21.
(4) سورة النحل، الآية 112.
(5) السيّد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن 3/ 460، ح 6174.
والشيخ محمد حسن الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 1/ 363، الباب 40 (باب تحريم الاستنحاء بالخبز، وحكم التربة الحسينية والمطعوم)، ح 1.
(6) سورة المائدة، الآية 20ـ 26.