الاجتهاد المعاصر .. آليات التطوير ودواعيه

شبكة مزن الثقافية

 سماحة آية الله السيد عباس المدرسي ( دام ظله ) أحد أبرز رواد النهضة المعاصرة ، بل يعد من مهندسي الصحوة ، بما قدمه من مؤلفات ومحاضرات على قلتها إلا أنها حوت في جنباتها الكثير من الرؤى النهضوية ، كما ساهم مساهمة فعالة في بلورة الكثير من المشاريع الرسالية التي انطلقت من العراق وإيران مرورا بالخليج ، وحتى السودان ، والمغرب العربي.

وبتوجيه من أخيه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته رعى سماحته ( دام ظله ) جملة من المشاريع الإعلامية ، ففي عام 404ا هـ - 1984م ، انطلقت على يده مجلة البصائر، وهي من أوائل المجلات الدراساتية التي تصدر في عالم التشيع آنذاك ، وهي مازالت تواصل مسيرتها الإعلامية مستظلة برؤاه ورؤى سماحة المرجع المدرسي دامت بركاته ، وفي العام 1413هـ - 1993م ، صدرت بتوجيهاته مجلة ( أهل البيت) الشهرية .

وقد عُرف سماحته في الوسط الحوزوي بقراءة المقدمات الأدبية والدينية والسطوح على يد الشيخ محمد حسين المازندراني والشيخ جعفر الرشتي في كربلاء المقدسة حيث ولد ونشأ بها عام 1374هـ .

حظي باهتمام بالغ من أبيه سماحة الفقيه العارف آية الله السيد كاظم المدرسي ( ت1414هـ) ، فدرس على يديه دروس المعارف الإسلامية ، التي تلقاها السيد كاظم من أستاذه لعارف آية الله العظمى الشيخ ميرزا مهدي الأصفهاني (303اهـ -1365هـ ) .

هاجر إلى الكويت برفقة خالة المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد مهدي الشيرازي (قدس سره ) ، وبصحبه أخيه المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته ، وحضر في الكويت البحث الخارج على يد خاله وأخيه ، وفي بدايات انتصار الثورة الإسلامية في إيران هاجر وسكن قم المقدسة وحضر أبحاث خاله المرجع الشيرازي (قدس سره ) وآية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله انتدب للتبليغ والتدريس في الحوزة العلمية بالشام ، السيدة زينب وتخرج على يديه جملة من العلماء الأجلاء من أبناء الخليج والعراق .

له مؤلفات عديدة أبرزها:
- ثورة الخامس عشر من شعبان ، وهي دراسة شاملة لمسيرة ثورة العشرين التي قادها العلماء الأعلام سنة 1920م ، وعلى رأسهم الميرزا الشيرازي (قدس سره ).
- الحضارة في عصر الإمام المهدي (قدس سره ).
- كلمة الزهراء وهي قصيدة من 300 بيت في نظم الخطب الفاطمية .
كما أن له ديوان شعر مخطوط . بالإضافة إلى جملة من الكتب الفقهية والأصولية المخطوطة .
بعد سقوط صدام بدايات العام 1424هـ ومنتصف العام 2003م ، دخل العراق برفقه أخيه المرجع المدرسي، ليمارس نشاطه التبليغي الرسالي ، ويشارك في الإشراف على الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة ، بالإضافة إلى أنه يمارس تدريس ماده البحث الخارج في كربلاء .
ومازال سماحته يتنقل بين الدول العربية والإسلامية للتبليغ والعمل الرسالي، التقت به البصائر وهو في زيارته إلى مشهد الإمام الرضا وذلك في منتصف شهر ربيع الأول1425هـ وكان بينه وبين رئيس التحرير هذا الحوار:

س : منهج الاجتهاد لدى الفقهاء له أصوله وطرقه التي تبلورت مع مرور الزمن ، وكانت كل مرحلة زمنية تحمل مجموعة من التساؤلات والتطلعات والطموحات ، ومع تنامي التطور في كل الميادين العلمية والمعرفية ، فهل ترون أن الاجتهاد بصورته الحالية قادر عن الإجابة على التساؤلات المعاصرة ، وبالأخص ما يمس المسائل الكبرى لدى الأمة ؟ .

الفقيه المدرسي : بدءاً الاجتهاد في الحقيقة مصطلح مستحدث بعد زمن النصوص الروائية ، فالمصطلح الأدق والأوثق في مجال العلوم الدينية هو مصطلح الفقه والفقاهة ، والاجتهاد في لسان الروايات يعني: بذل أقصى الجهد من الشخص في العبادة والتنسك ، فإذا قيل فلان مجتهد أو أشهد أنك كنت مجتهداً في دينك ، فمعنى ذلك أنه كان يبذل أقصى جهده في العبادة وفي التنسك والتهجد.
ومع التسالم على ما هو الدارج في لسان الفقهاء والصناعة ، فالمعروف بأنه بذل أقصى الجهد لمعرفة الحكم الشرعي من خلال الأدلة . وهو حركة تفاعلية بين الفقيه وما يختزنه من مبادئ ثابتة ومن خبرة لتطبيقه تلك المبادئ على المصاديق والوقائع المختلفة وبين الحياة المتجددة من حوله . والفقاهة حركة تفاعلية وليست حركة جامدة .
وللتوضيح لاحظوا الفرق بين علم الطب أو علم الفلك ففيهما وغيرهما من العلوم الطبيعية تدرس أمورا ثابتة غير متحركة ، غير متحولة ، غير متغيرة ، غير متبدلة . . الخ ، بينما الفقه علم يبحث الحياة المتجددة . . والفقاهة تتكون :
أولا : بالقدرة على معرفة ( الاستنباط من خلال الأدلة التفصيلية ) الأحكام الأولية .
ثانيا : اكتشاف القواعد العامة وما أشبه .
ثالثا : ثم القدرة على تطبيق ذلك على الخارج وإرجاع الجزئيات لكلياتها ومعالجة تداخل العناوين والمصالح ، وهذه هي الحلقة الأهم لذا في الرواية  نجد تعبير ( الحوادث الواقعة ) .
ومن ثم ففتاوى الفقهاء تكون متجددة ، لا يمكن أن يفتي الفقيه في واقعة تحصل في هذا العصر بالإجابة نفسها التي كانت قبل ألف سنة .
طبعا لا أقول بأن هذا التطابق لا يحصل أبداً ، بل أقول : ليس بالضرورة أن يكون هناك تطابق بين الفتوى في عصر سابق وفتوى في عصر لاحق لأن هنالك أمور جزئية تدخل في تغيير المصداق . ولعل الفقيه يفتي بحكمين مختلفين بالنسبة إلى شخصين مختلفين لأن أحدهما يختلف عن الآخر بظروفه ، فمثلا يحكم لشخص بجواز أن يترك الحج ولشخص آخر بعدم جواز ذلك وفي سنة واحدة وفي زمان واحد، والسبب هو اختلاف ظروفهما الشخصية .
إذن الفقيه هو من يعرف المتغيرات في الواقعة التي يعطي حكمها ويستطيع أن يطبق الحكم الشرعي المناسب لكل واقعة طبقا لمتغيراتها . وفي بعض جوانب الفقاهة تشبه عملية الطبابة لا يمكن لأي مريض أن يأخذ نسخة مكررة من دواء مريض آخر وإن كان مصابا بالمرض نمسه ، لأنه قد يكون المرض واحدا ولكن المريض مختلف ، ظروف المريضين مختلفة ( شيخ له أمراض أخرى، مختلفة عن أمراض الشاب ) .
فالسؤال أن الاجتهاد بصورته الحالية هل هو قادر على الإجابة على التساؤلات المعاصرة ؟ .
الجواب : نعم قطعا ، لأن الفقاهة أساسا هي عملية تفاعلية - ولا مجال هنا الكلامي - ، إذ إن التفاعل مع الحياة المتجددة يتكفل بجعل المستجدات مادة للبعث العلمي ، بل ويجعل أدوات الاستنباط دائما محل اختبار. لذا يلاحظ المتتبع لتاريخ علم الأصول تطور النظريات والأدوات الأصولية ، والاستعانة ببعض العلوم كما يطرح ذلك في الحاجة لعلم الرجال ، والحال أنه في عصر المعصومين كانت الحاجة إليه محدودة .
نعم مؤخرا في المائة سنة الأخيرة ، تطور المجتمعات الإنسانية والتقدم العلمي الهائل والسريع يجعل التحديات كبيرة . ولذلك أيضا نرى تقدما كبيرا وتوسعا في علم الأصول حصل في تلك السنين .
وإذا أغفلنا مسألة أن قسما من النظريات التي يطرحها الفقهاء ليست محل قبول عند المدارس الأخرى نتيجة طبيعية للتباين الفلسفي بيننا وبينهم ، ومن ثم يرون أن عدم مسايرتهم عدم استجابة للتطور. وإذا أغفلنا إن قسما من المشاكل الناتجة عن التطور عند البشر تخصهم ونعاني نحن المسلمين منها بصورة اقل ، وما إلى ذلك . نجد أن استجاب البحث الفقهي ليست بأقل من المدارس البشرية إلى اصطنعت التطورات ومشاكلها.
لكن السؤال يمكن أن يصاغ بشكل آخر وهو أنه هل الفقهاء في بحوثهم الفقهية حاليا يستطيعون ذلك ، أو يمارسونه ؟ .
فهذا كلام آخر لكن بملاحظة جملة من الأمور يتضح معها الأمر:
-   تنوع الظروف واختلاف جزئياتها مع اجتهاد مفتوح يجعل الاستجابة والتصدي شأنا مرتبطا بالفقيه ، حيث يطبق المبادئ العامة على الوقائع الخاصة . ففي الفقاهة لا توجد إجابات ثابتة . فلنفرض مثلا مجتمعا يبتلى بحاكم ظالم هل هناك شيء ثابت مكتوب يمكن الرجوع إليه ؟ ، الجواب : لا ، الفقيه هو الذي يشخص أن هذا المجتمع وظيفته كذا وأن ذاك المجتمع المبتلى بنفس الحالة وظيفته شيء آخر. لأن الفقيه يعالج حالة حية والمبادئ العامة المكتوبة لا تستطيع أن تعالج الحالات المتحولة والمتغيرة . نضيف لذلك أي لاختلاف ابتلاءات المجتمعات ، اختلاف أنظار الفقهاء ليس في معالجة مشكلة ما، بل في شأن التصدي من حيث السعة والضيق ، في وظيفة الفقيه .
- طبيعة البحث العلمي وسعته ، بل والحاجة إليه خاصة أم عامة ، تتعلق بالمنهج أم بنتائجه . ويمكن القول : إن النظرة الكلية لمجمل البحوث ومجمل الفقهاء تظهر مواكبة متنوعة ومتكاملة ، فأبحاث الفقهاء تتكامل وتتضافر وتتنوع ، والمعول على مجمل الحركة العلمية للبحث الفقهي الإمامي . نعم دائما يبدأ البحث المستجد عند أحدهم ثم تتراكم الأنظار، فطبيعة البحث العلمي تحتاج لزمن .

س : ترتبط حركية الاجتهاد وفاعليته بالمناهج الحوزوية ، ومن هنا تثار إشكالية ترى أن المناهج الحوزوية وغم أهميتها وجودتها ومتانة مضامينها إلا أن العديد من الثغرات تكتنفها، مما يؤدي إلى تعويق عميلة التطوير، ومن تلك الثغرات التي جعلت المناهج الحوزوية وبالأخص مناهج علم الأصول ليست قادرة على تلبية الحاجات المعاصرة بصورة شاملة هي ما يمكن أن نسميه انفصال هذه المناهج عن حركة التطور في العلوم العصرية ، كالنظريات الحديثة في النظر للمقولات التاريخية ، وعلم الألسنيات المعاصر، كالبنيوية والشفاهية وغيرها من المناهج المتجددة ، فمع هذا التطور في العلوم عامة نرى مناهج الحوزة لا زالت قابعة بين تحليلات لغوية يستنتج الفقيه بعدها عدم وجود ثمرة ، بينما العلوم الحديثة اللغوية والتاريخية والاجتماعية تقدم ضوابط ورؤى جديدة يمكن أن تسهم في تجديد حركة الاجتهاد وتطوير آليات الاستنباط .. ما هو وأيكم بهذه الإشكالية التي تثيرها الاتجاهات الثقافية والدينية وغيرها ؟ .

الفقيه المدرسي : الحقيقة أن هنالك كلاما كثيرا حول مناهج التدريس في الحوزة ، وهناك إجماع تقريبا من معظم المتصدين والمنكرين في الحوزة على أن هذه المناهج لا تكفي لتربية فقهاء قادرين على مواجهة متطلبات العصر، وقادرين على الإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تطرح في العصر الحاضر.
وقبل ثلاثة عقود كان لنا حديث بهذا الشأن ( أي الإصلاح والتطوير ) وما زال ، لك أصبح الكلام فيه موجا يكنس معه التقييم الواقعي للأمور، لذا ينبغي التروي والتأكيد على العقلانية والعلمية الموضوعية هنا.
طرحتم في سؤالكم جملة من الأمور المتشابكة ، ومن المناسب أن نلاحظها تباعا:
- لحسن الحظ أن الفقيه عندنا ( الإمامية ) نظرا  لكون الحرية العلمية مفتوحة أمامه في الحوزة ، يطلع على مختلف العلوم ، هو منفتح على مختلف التيارات الفكرية والثقافية ، وبالنتيجة يعوّض ما يفتقده في المناهج الدراسية .
الحوزة هي بمثابة حاضنة كبيرة وجامعة واسعة تلتقي فيها تيارات فكرية وثقافية كثيرة ومختلفة ليست بالضرورة نابعة من الدروس الحوزوية . نعم الدروس الحوزوية بحاجة إلى إصلاح . هناك إجماع على أن هذه الدروس أو المناهج وحدها لا تكفي ،  لكن انفتاح الحوزة على التيارات الفكرية المختلفة يعوض النقص في المناهج ، أستطيع أن أقول : إن المناخ العلمي الحر والمفتوح لجميع التيارات بأن تطرح نفسها متقدم على المناهج الحوزوية . المناهج الحوزوية متخلفة عن المناخ العلمي، ولابد من تغيير تلك المناهج لكي تكون في مستوى المناخ العلمي، ولكي تكون في مستوى الطموح ، ولكيلا يضطر الطالب أن يستقي شيئاً من علومه وأفكاره وثقافته من خارج هذه المناهج ولتكون هذه المناهج قادرة على تزويد الطالب بما يريد وكفاية . ولا يخفى أن بعض العلوم ينبغي أن تجد لها مكانا في المناهج الحوزوية . وبالفعل في العقود الثلاثة الأخيرة بدأت المناهج الحوزوية تتهذب وتتطور وعلوم تجد لها مكانا مناسبا ، وأخرى يعرض لها التهذيب الكمي ، أما الإرهاصات بل المحاولات فكانت في منتصف القرن الماضي ، وعموما عملية تطوير المناهج تحتاج إلى زمن ، والى أن يكون التطوير بآليات داخلية .
- علم الأصول  - علما أن المناهج الحوزوية لا تختزل في علم الأصول – متضخم أكثر من اللازم في الحوزات العلمية وهذه مشكلة تعاني منها الحوزات والجامعات المفتوحة ، وهي مشكلة تضخم فرع على حساب الفروع الأخرى، فتجد في الجامعات العلمية الكبرى في العالم أن الدراسات التي تختص مثلا بالمجتمعات الصناعية تفوق عشرات المرات الدراسات التي تعالج المجتمعات غير الصناعية مثلا، هذا في جانب العلوم الإنسانية ، وتضخم العلوم الفلسفية أو المناهج الفلسفية على حساب علوم أخرى، كما في حوزة أصفهان في فترة من الزمن . لكن لم يكن هذا بشكل دائم ، وإنما كان هناك من يأتي من الفقهاء ويعيد الميزان إلى اعتداله .
في الحوزة العلمية الحالية هناك تضخم في جانب علم الأصول ، حيث ذهب بعيدا ، طبعا نحن لا نستطيع ولا نريد أن نوقف أي تقدم علمي في أي مجال ، وإنما الكلام حول المناهج التي تعطي قدرا أكبر مما تحتاج من وقت الطالب الدراسي على حساب منهج آخر، وما يجب هو أن تكون الفرص متكافئة وحسب الحاجة .
الفقه يجب أن يكون الهم الأكبر لطالب العلم في الحوزة - إذ هو الغاية - وليس علم الأصول ، لأن علم الأصول إذا أخذ ثلاث أرباع أو حتى نصف وقت الطالب فالنصف الآخر لا يكفي للاطلاع على الفقه واستيعابه نظرا  لسعته وترامي أطرافه .
من هناك دعا المفكرون في الحوزة إلى تقليص الأصول بشكله الحالي وحصره في الأبواب الضرورية المهمة والمرتبطة بالفقه مع تعديلات طبعا في كثير من الأبحاث واختصار كثير منها وربما حذف بعضها مما لا يتصل بالفقه مباشرة وإنما له جانب علمي فقط ، مثل بعض الأبحاث اللغوية والفلسفية .
- أما انفصال بعض الأبحاث في علم الأصول عن الأبحاث الحديثة ، فنلاحظ أولا أن علم الأصول أساسا ليس علما واحدا، وهذا سبب تضخمه ، لأنه جمع مجموعة من العلوم في حضنه على أساس الغرض ( الاستنباط ) ، مضافا إلى أن بعض الأبحاث مع حاجة الفقيه لها لم تدون في علم الأصول (وهو علم المنهج للفقه ) لكونها مبحوثة في علوم أخرى كعلم الكلام أو علوم التفسير، في مقابل ذلك تطرق الأصوليون إلى بعض الأبحاث وهي علوم أخرى لحاجتهم لها بوصفها مبادئ للعلم ( مقدمات نظرية للمنهج أو بعض أدواته ) كما هو في الأبحاث اللغوية لعدم بحثها من جانب اللغويين أو تقدم البحث الأصولي عليها ، هذا أولا.
وثانيا : إن عدم الارتباط بين المناهج الأصولية بما أنتجته المدارس العلمية الحديثة في بعض أبحاثه هو نقص وفي بعضها الآخر ضرورة منهجية .
وذلك يتضح بملاحظة أنه ليس من الصحيح على المنهج الدراسي المحدد بزمن أن يبحث كل التيارات الفكرية التي تطرح في المعترك العلمي، هذا متروك لمرحلة متقدمة مرحلة البحث ومرحلة الاجتهاد المفتوح . لنضرب لذلك مثالا : الطالب الجامعي يدرس نظريات عامة من باب أنه يستعرض النظريات ولكن بعد أن يتخرج من الجامعة ويصل إلى الدراسات العليا - خصوصا  في مرحلة الدكتوراه - يبحث الكثير من المسائل بعمق ، ولربما يتناول بالبحث نظرية جديدة أو موضوعا غير متناول في المناهج التعليمية .
وربما سبب ذلك يرجع إلى أن كل نظرية بحاجة إلى زمن حتى تستقر علميا من خلال التمحيص العلمي لها، وكمثال للتوضيح في الطب تجد أن هناك نظريات كثيرة متداولة في البحث العلمي، ويمكن أن تأخذ طريقها للمعالجة في بعض المستشفيات ، لكنها لا تدخل ضمن المناهج الدراسية لأنها ستأخذ فترة طويلة من الزمن ، إلى أن يبرهن على أنها – مثلا - نظرية صحيحة .
ويبدو أن نظرية داروين استثناء ، إذ إنها أخذت طريقها إلى مناهج الدراسة في الغرب ليس بسبب قيمتها العلمية ، وإنما لوجود حركة ثقافية مادية مضادة لثقافة الكنيسة ، وهذه النظرية كانت تحمل في الواقع بصمات واضحة للنظرية المادية للحياة لذلك أدرجت ضمن المناهج الدراسية مع أنها مجرد فرضية علمية يمكن أن تكون صحيحة ويمكن أن تكون باطلة . وهي فعلا باطلة .. نعم إخراج نظرية من المناهج الدراسية .و إدخال نظرية في المناهج الدراسية في العلوم الإنسانية لا تتبع الرؤية العلمية أيضا الاتجاهات العامة الفلسفية والسياسية في دولة ما.
ثالثا: هناك مجالات لا تلتقي فيها البحوث العلمية الحديثة مع موضوع المناهج الحوزوية ، نعم هناك أبحاث تتصل بالنص الديني وكيفية تقويمه وكيفية فهمه وكيفية معرفته وكيفية تأويله وهذا يرتبط بالنص الديني ويرتبط باللغة العربية ، وثمة أمور في مناهج العلوم تتداخل وعلم الأصول منها، ولا نجد لهذا التداخل أثرا في المناهج الحوزوية ، وهذا يمكن تفسيره بما سبق . نعم بعض هذا الفقدان نقص في المناهج ، ولذا هناك دعوة للتطوير ، وقد ذكرنا أيضا سابقا أن الحوزة ليست فاقدة لهذه التيارات الثقافية فالمناخ العلمي الحوزوي متقدم على مناهجها.
وأرى أنه ليس من الصحيح دائما أن ندخل نظريات حديثة على الإطلاق في أي مجال من المجالات ضمن المناهج الدراسية لأن هذه المناهج يجب أن تتصف بصفة الثبوت والاستقرار، حتى تعطي الاطمئنان العلمي لمن يدرس هذه النظرية بحيث أن الطالب لا يدرس نظرية وفي الوقت نفسه يكون عنده شك في هذه النظرية خصوصا أنه في مرحلة التلقي وليس في مرحلة البحث والتنقيب والاجتهاد. ودعوة إدخال هذه النظريات للمناهج الحوزوية قد لا تكون صحيحة ، ولكن دعوة عرض هذه النظريات وطرحها في مرحلة الدراسة العليا ( الخارج ) بالحوزة صحيحة ، أي مرحلة البحث والتنقيب وتقييم الآراء ، لذا نجد مثل نظرية ( الاستجابة الشرطية ) للعالم الروسي (بافلوف ) قد دخلت في مجال اللغة أيضا واستخدمها بعض العلماء في مسألة ( الوضع ) ، وهي بصدد الإجابة عن سؤال يتعلق بتفسير العلاقة ( التلازم ، السببية ، الاندماج ) بين الألفاظ والمعاني ، إذ إن اختيار الإنسان لفظا محددا لمعنى معين لا يفسر التلازم بينهما، وقد ذكرت نظريات متعددة كالتعهد والمناسبة الاعتبارية والقرن الأكيد، وهذه الأخيرة اعتمدت على نظرية (الاستجابة الشرطية ) حيث إن هناك حالة استجابة شرطية ما بين سماع كلمة والانتقال إلى معنى تلك الكلمة من خلال التكرار، ولذلك يتعلم الناس اللفات من خلال التكرار. وهذه استفادة جيدة ونموذج لتداخل العلوم .

س : لقد ذكرتم سماحتكم أن المراجع منشغلين بالتيارات الفكرية .

الفقيه المدرسي : - أنا أقول - إن البحث العلمي الحوزوي مفتوح وتتداول وتتصارع فيه النظريات والنظرات ، أما إطلاقية الانشغال بها أو عنها لدى الجميع مجازفة ، والتعميم في غير محله ، وكما قلنا سابقا المعول على مجمل البحوث .

س : ألا يمكن أن نضيف هذه الرؤى لكر يألفها الدارسون ، - سيدنا - في مراحل متقدمة حتى تكون عندهم ملكة نقد تفحص هذه النظريات لا أن تؤجل هذه النظريات إلى مرحلة متأخرة فيفاجئون بها ويكون مما يوجد برزخا بين النظريات التي أخذوها في العلوم الحوزوية وبين النظريات الجديدة التي يطلعون عليها فلا يشعرون بأن هناك حالة من الانسجام بين هذه النظريات .

الفقيه المدرسي : نعم توجد مبررات حقيقية في هذا المجال . لكن لدينا إشكالية تتعلق بالمناهج المكتوبة أنه لا يمكن أن تستوعب كل النظريات ، وأنه مع مضي زمن ما تستجد نظرات ، وتعالج بالتطوير المستمر، وبالمناهج غير المتينة ( غير مكتوبة ) كما هو في بحث الخارج (الدراسة العليا) .
ومن جهة أخرى ينبغي الالتفات إلى طبيعة خاصة بعلوم الدين والفلسفة والمناهج ، أنها تتسم بصرامة بصفة التراكمية ، ففي علوم الطبيعة تهجر النظريات القديمة حين يكتشف خطؤها وتصبح من التاريخ ، بينما هنا لأغلب النظرات قيمة في البحث العلمي غالبا، فلا يفرق قديمها من حديثها، ودائما تجد من يجدد القديم بجانب جديد مستحدث . فعليه لا ينبغي أن يكون تطوير المناهج قطيعة مع ما هو قديم زمنيا. لذا الموازنة بين ما ينبغي أن يدرج أو يؤجل للدراسة العليا أو يترك للباحث ويرشد لمراجعته ليس أمرا ميسورا.
ومن جهة ثانية واقعا علم الأصول يتطور في الحوزات . وراجعوا كتاب الأصول الذي كتبه السيد المرتضى  وكتاب معالم الدين  للعلامة ، بل والأصول الذي كتب فيما بعد ذلك أيضا في مدرسة العلماء الثلاثة : (الشيخ النائيني  ، المحقق العراقي ، الأصفهاني  ) من بعد المحقق الخراساني ، هذه أيضا تجد تطويرا فيها. إذن نحن لسنا في حالة جمود، فـ ( معالم الأصول ) و( القوانين ) أصبعا من التاريخ . والآن هناك تطوير في مناهج التدريس في إيران ، قد تكون هناك بعض المدارس المتمسكة بالقديم أو بعض الأشخاص ، ولا شأن لنا بالحالات الشاذة .
إذن هذا السؤال حول الإشكالية التي تثيرها الاتجاهات الألسنية المعاصرة الحاكم فيه هو العقل والحكمة والمصلحة ، ينبغي أن نكون منفتحين أمام النظريات الحديثة ولكن لا يجب أن نكون منبهرين لأنها نظريات حديثة فليس كل قديم باطل وليس كل حديث حق . وكل نظرية حديثة سواء كانت في المناهج اللغوية أو الاجتماعية لمجرد كونها حديثة هذا لا يعني حقا أنها صحيحة ، ولعل بعض تلك النظريات هي تجديد لنظرية قديمة أو تلبيس لها بلباس جديد.

س : تُعدّ علم الأصول مدخلا مهما في عملية الاستنباط ، وهو يمثل رؤية عامة للفقيه المستنبط ، كيف تنظرون إلى علم الأصول بمناهجه ومنهجيته الحالية ، وهل هو قادر على الإجابة على التساؤلات المتجددة ، وهل ترون كفايته في إعطاء رؤية واضحة لفقه معاصر يلبي حاجات الأمة ، ويجيب على تساؤلاتها ، وإذا كنتم ترون أن علم الأصول بهذه المنهجية قاصر عن تأدية وظائفه بشكل تام فكيف ترون علاج هذا الأمر ؟ .

الفقيه المدرسي : الأصول يعد مدخلا مهما في الاستنباط والسؤال يستبطن إجابة مسبقة يحصر الإجابة في الحقيقة ضمن الإطار الذي ورد في السؤال ، وهو إذا كنتم ترون أن علم الأصول بهذه المنهجية قاصرا عن تأدية وظائفه بشكل تام فكيف ترون علاجها ؟ .
في الواقع إن علم الأصول المعاصر هو علم واسع ، ولا يتشخص بكتاب معين حتى أستطيع أن أعطي رأيا فيه . أما أن مجمل الكتب الأصولية أو مجموعة الكتب الأصولية قاصرة لا أستطيع أن أحكم بهذا الحكم ، لكن أقول بأن هناك مجالا واسعا في أصول الأصول ، وبعبارة أخرى في منهجية علم الأصول . وهناك في الحقيقة سؤال أعمق من هذا ، وهو هل أن علم الأصول الموجود حاليا هل هو المسيّر واقعا لعملية الاستنباط الفقهي ؟ .
أستطيع القول بأن الفقيه لا يعتمد كثيرا على النظريات الأصولية في عملية الاستنباط ، طبعا يستفيد من علم الأصول كثيرا بوصفه منهج إلى جانب تقويته الفكر وتوسيع الذهن والدقة في النظر إلى القضايا وما أشبه ذلك . أي هذه فوائد جانبية لعلم الأصول لكونه علما فلسفيا عميقا ودقيقا ، ويحتوي على مجموعة من العلوم كفلسفة اللغة وقضايا أخرى، لكن هل أن علم الأصول هو الموجه فعلا وبشكل حصري ؟ .
هذا ما أشك فيه لعلم ، إلا أن له تأثيرا كبيرا على عملية الاستنباط قطعا. ولكن ليس هو الموجه الوحيد للفقيه ،  خصوصا عند فقهائنا المتبحرين في الفقه والمرتبطين بالحياة . هؤلاء في الحقيقة نجد عندهم تجاوزا لعلم الأصول في عملة الاستنباط للحكم الشرعي إلى الفقه المقاصدي ، وفي الحقيقة إن المفتاح الأساس لاستيعاب المستجدات والمتغيرات هو الفقه المقاصدي ، فالأصول المتعارفة أشبه ما تكون لفقه الثوابت والأحكام الأولية ، نعم يوجد في مسائل علم الأصول ما هو أساس في فقه المتغيرات لكنه لم يأخذ مساحته الكافية في علم الأصول وإنما في علم الفقه .

س : بدأنا نسمع عن الفقه المقاصدي الذي ينطلق من أن الأحكام تابعة للمصالح ، وبالتالي يكون الأمر والقضية التي لا نص فيها يمكن للفقيه أن يحكم فيها انطلاقا من الرؤية المقاصدية العامة في الفقه الإسلامي، لأن كل قضية وكل أمر فيه لله حكم وهو يتبع مصلحة ، كيف تنظرون إلى هذا التوجه الفقهي، وهل يمكننا أن نحدد ونضبط هذه المصالح من الناحية التشريعية ؟ .

الفقيه المدرسي : هنالك بحث في علم الأصول : هل أن الأحكام تابعة للمصالح وما هي المصالح ؟ ، فالمصالح تفهم بأشكال مختلفة . هناك كليات لا نشك فيها أو لا يشك فيها أحد مثلا حفظ الدماء والأعراض والنفوس والأموال .
والكلام ليس في هذه الكليات وإنما في المصاديق ، حفظ النفس في هذه القضية ، في هذه الواقعة ، في هذه العالة ، في هذا العصر، في هذا المجتمع ، في هذا الزمن بالذات هل هو واجب أم لا ؟ ، ثم القيم والمصالح تتعارض فأية مصلحة مقدمة على المصلحة الأخرى ؟ .
نجد مثلا أن مصلحة حفظ النفس لا تساوي مصلحة حفظ المال مع أن ظاهر الأمر أن حفظ النفس أولى من حفظ المال فإذا كان المال مالاً لأمة ومال جماعة وأن هذا المجتمع حياته المعنوية مرتبطة بهذا المال فنجد أن بعض النفوس تذهب شهيدة في سبيل حفظ هذا المال ، فلا تستطيع أن تقول : إن حفظ النفس بشكل مطلق متقدم على حفظ المال ! .
فلدينا مجموعة أسئلة تتعلق بتشخيص القيم ومعايير تفاضلها، والجهة المخولة بتقدير الخارج .
وثمة معايير داخلية ( من النصوص وتعتمد تراتبية القيم ) ، وقد كتبت بحثا قديما حول تفاضل القيم في الإسلام   . وثمة معايير خارجية ( لكشف الموضوع الخارجي وكم المصالح الخارجية ) . وهنا نحتاج لدراسة السيرة المعصومة وأن نستعيد الحالات المشابهة .
وفي سيرة أمير المؤمنين نموذج معصوم لعلاج تعارض القيم والمصالح . فلم يقدم الأمن على العدل بمصادرة الحريات ، ولم يسقط الحقوق للمعارضين ، ومن النماذج معركة الجمل حينما انتصر على الفريق الآخر حرم على جيشه الاستيلاء على أموال المهزومين .
الإمام قال : " . . ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، وألاّ يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل ، إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره ..   .
فلا يمكن للحاكم الشرعي أن يصادر أموالهم .
والرسول الأكرم مع أنه سيطر على مكة إلا أنه لم يبح أموال أهل مكة لجيشه   واقتصر الأمر على ما حواه العسكر من الأموال التي جاؤوا بها ليحاربوا الحاكم الشرعي. يعني الخيل والبغال والحمير يعني الوسائل التي كانت بأيديهم والأسلحة .
ومثال آخر النبي الأكرم في المدينة المنورة عقد حلف مع اليهود في مقابل قريش ولكن بعد أن خرق اليهود عهدهم مع النبي ردّ عليهم الرسول بإخراجهم من المدينة . فمعرفة الظروف التي عقد النبي العهد معهم ثم حاربهم مهمة ، حتى لا يستند الذي يتعامل اليوم مع اليهود إلى أن النبي تحالف معهم والذي يحاربهم بأن النبي حاربهم اعتباطا .
وينبغي أن ندرس الحالات بشكل دقيق بالنسبة للفتاوى الفقهية أيضا  كذلك مع أنها غير معصومة بل بوصفها تجارب فقهية ، مثلا إن حرمة استخدام التنباك مثلا هذه كانت فتوى   محددة بفرض معين ، بقرار معين . إن وجود شركة أجنبية تريد أن تقوم باستثمار لمورد من الموارد الاقتصادية هذا لا يستدعي استصدار فتوى بالحرمة ، إلا أن شركة التبغ البريطانية عندما جاءت إلى إيران كانت وسيلة للتدخل الأجنبي .

س : لكن ألا يمكن تحديد هذه الضوابط بحيث تكون ضوابط عامة وبالتالي ينطلق الفقيه من هذه الضوابط ، أما إذا تركنا هذه القضية لذوق الفقيه يمكن أن يكون هنالك اختلاف في حكم لحادثة واحدة .

الفقيه المدرسي : في الحقيقة الضوابط مهمة جدا ، ولا نشك في أن لكل حالة ظروفها ودراسة التجارب ليست إلا للاسترشاد. لكن تشخيص القيم ومعايير التفاضل الداخلية هو اختصاص الفقيه ، بينما المعايير الخارجية هي من اختصاص شورى أهل الخبرة والفقيه . وبعد التقوى تكون القيم بنفسها موجهات في الحكم الشرعي.

س : إذا قلنا بأن الأحكام تتبع المقاصد وسواء قلنا بأن معرفة الحكم تتم من خلال النظرة المقاصدية أو من خلال الرجوع للأدلة الأربعة ، فهل هذه المقاصد ثابتة منذ عصر التشريع وإلى الآن ؟ أم أن بعض الأحكام يكون للزمان تأثير في توجيه مقاصدها ؟ ، أي هل هذه المقاصد هي نسبية أم مطلقة على نحو القضية الخارجية أو على نحو القضية الحقيقية ؟ .

الفقيه المدرسي : لمزيد من الإيضاح ينبغي التفرقة بين نوعين من القوانين الشرعية ، فنوع طابعه الثبات حتى في التفاصيل التي بينها الشارع المقدس ، وينضوي هنا العبادات ، وما يسمى مدنيا بالأحوال الشخصية كقضايا الزواج والإرث ، وقانون العقوبات ووسائل الإثبات فيها. والتبدلات في هذا النوع مؤطرة ظاهرا بالطابع الشخصي والمحدودية ، ويعالجها الفقيه بما يعرف بالعناوين الثانوية ، ويكون لسان حكم الفقيه في واقعة جزئية هو ( الفتوى ) ، وبعبارة مثل تشخيص الطبيب لحالة مرضية محددة ، فلا يعمم تفصيل العلاج .
والنوع الثاني ما أطلقت عليه الروايات بـ ( الموسعات ) ، وينضوي تحتها ما يرتبط بالولاية العامة والسياسات والاقتصاد .
والفارق بين النوعين بالنسبة للفقيه هو السعة والضيق الناشئين من التفصيل ومتابعة الجزئيات في الأول ، وسوق التشريعات في الثاني على نحو الأحكام العامة والكليات . والتفاعل الكبير مع الخارج يكون في النوع الثاني.
فالأحكام في النوع الأول قد حسم الأمر فيها. ومع أن الحكم تابع للمقاصد، لكنها المقاصد التي عينها الله عز وجل ، وهي بعلمه تعالى ومن ارتضى.
والنوع الثاني مفتوح نسبيا ، وهناك عدة مبادئ عامة تضبط حركة تلك الفتاوى. وكلا النوعين مستنبط من الكتاب والسنّة بلا فرق من حيث المصدر مطلقا .
ومن الأمور المهمة التمييز بين النوعين . ومثلا عدة المرأة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، هل يمكن أن يتغير هذا ؟ بالطبع لا، أبدأ.
هذه مسألة محسومة مع أنها ليست من العبادات أيضا . لكن هناك أمور أخرى مثل التعامل مع الأجنبي - هو يعني في الفقه الإسلامي الكفار - التعامل معه يتبع المصالح والمفاسد حتى مع الكافر المحارب . وهذا مثال لتأثير الزمان والمكان في فتوى المجتهد، ولكن ليس في كل الأحكام ، وتأثيرهما يرجع للمعايير الخارجية . نعم مع استبعاد التقوى يكون الأمر مختلف . لذا ينبغي التمييز بين صنفين من الفقهاء العدول ووعاظ السلاطين . فهل نستغرب أن يصدر رئيس دولة جواز الإفطار للعمال لزيادة الإنتاج ، طبعا مثل هذا الفتوى هي ليست نابعة من أي أصل من الأصول الشرعية ولا هي تابعة للمقاصد والمصالح الشرعية لأنه إذا كان بإمكان الحاكم أن يصدر مثل هذه الفتاوى فمعنى ذلك نسخ الإسلام كله . ونحن نتحدث عن الفقيه العادل ، ليس إلا .
أما ما يتعلق بنسبية وإطلاق المقاصد، فبدءا ينبغي استبدال تعبير (المقاصد) بـ (المصالح )، إذ إنها كذلك . فالأمن والعدل والحرية وما إلى ذلك هي مصالح . وعليه ندرك أن المصالح في تطبيقاتها نسبية ، نعم المصلحة العليا نظريا مطلقة ، لكن مصاديقها متفاوتة .
فالعدل وهو قيمة مطلقة ذاتا بحسب النظر الفلسفي للتقبيح والتحسين العقليين ، إلا أنه في الخارج ليس بصورة واحدة ، ومع ملاحظة أن قوام العدل في الحياة الاجتماعية هو الجمع بين الحقوق لتنافرها بالتعارض خارجا لإتاحة الفرصة لاستيفاء كل ذي حق حقه ، وبعبارة أدق استيفاء أكبر حصة من حقه الأولي لولا تزاحم حقه مع حقوق الآخرين . ندرك بوضوح أن العدل في الحياة الإنسانية مسألة نسبية .
وبحسب السؤال فالعناوين على نحو القضية الطبيعية في حين أن التطبيقات على نحو القضية الخارجية .

 

حركية الفقه وتطوراته

س : نلاحظ في الفقه حركة نحو الانفتاح والتيسير وذلك عند تجديد النظر في المقولات والأحكام الفقهية ، وقد يصل الفقيه المعاصر إلى خلاف ما وصل إليه الفقهاء الماضون ، ونلاحظ أن دائرة المحظور بدأت تضيق ، وتتسع في المقابل دائرة المباحات ، وكل ذلك نتج عن تجديد النظر في تلك الموضوعات والخروج بتصورات جديدة ومختلفة عما هي عند الفقهاء الماضين ، ومن أمثلة ذلك موضوع الموسيقى ففي السابق كانت نظرة الفقهاء متشددة وينظرون للموسيقى بأشكالها المتعددة على أساس أنها تحت دائرة المحظورات لكن مع مرور الزمن بدأ يضيق المحرم منه عند بعض الفقهاء، وكذا موضوع المرأة ومشاركتها في الحياة العامة ، والنظر إليها، والعديد من مسائل الحج كالإتيان بأعمال مكة ليلا للنساء والمرافقين قبل الذبح وبعد الرمي والتقصير ليلة العاشر، وغيرها من المسائل ، فهل يمكننا أن نقول : إن الفقهاء لم يمعنوا النظر جيدا في مرحلة الاستنباط أم أن الزمن والمرحلة والثقافة العامة تقيد أولئك الفقهاء وتمنح للمعاصرين مجالا أكبر من الانعتاق من التأثر بالحالة العامة ، أو العكس أن الفقهاء المعاصرين أكثر تأثرا بالواقع والحالة العامة ؟ .

الفقيه المدرسي: في شأن الفروقات التي تميز الاجتهاد المعاصر عن الاجتهاد في الزمن الماضي، في الحقيقة إذا كان الكلام عن الدروس ومقدمات الاجتهاد فهذا بحث قد تجاوزناه ، أما إذا كان البحث حول الفتاوى، أي هل أن الفتوى في هذا العصر تختلف عن الفتوى في العصور السابقة ؟ فالجواب لا . أما لو كان السؤال هل أن الفقيه اليوم تطورت مناهجه بحيث إنه أقرب إلى الإفتاء بشكل صحيح من الفقيه سابقا ؟ .
أقول : إنه في بعض الجوانب لا، وفي بعض الجوانب نعم ، لأن المناهج في بعض الجوانب لا تزال في حاجة إلى تغيير وإلى تطوير. . وإلى آخره . وفي بعض المجالات انفتحت الحوزة على التيارات الفكرية والثقافية ، ليس باختيارها وإنما العالم كله انفتح على بعضه بعضاً ، الثقافات تداخلت ، وسائل الإعلام ، وسائل التثقيف دخلت كل بيت ، فمن الطبيعي الحوزة - وهي جزء من المجتمع - أيضا  تأثرت كذلك .
أما تفسير الاختلاف في الفتاوى فمضافا إلى أن الاجتهاد مفتوح عندنا، ومن ثم يتعدد النظر والاستنباط ، فينبغي النظر إلى الاختلاف بأنه ظاهرة طبيعية . ومضافا إلى جملة من العوامل ذكرت في الحديث سابقا، ينبغي ملاحظة بروز عامل متغير وأساس وفارق عما سبق ، وهو لدينا دولة تسعى إلى تطبيق الأحكام الشرعية . وواضح أن فقه الدولة وما يلابسه من مستجدات يفتح الباب لاجتهاد بأفق جديد يختلف عن فقه الأفراد. وربما ينبع قسم من السؤال من المقايسة بين فقهين ، وموازنة بين ظرفين مختلفين .
ونلف النظر لمفارقة نتجت عن غلق باب الاجتهاد في الفقه السني وفتحه لدينا، وهي صعوبة تمثل الدولة الدينية لديهم . حيث يكون حال انقطاع تجربة الاجتهاد ونموها الطبيعي في مسار النموذج السلفي الذي يمثل الانغلاق الفكري الذي تمتاز به المدارس السنية التي أغلقت باب الاجتهاد فأغلق عليهم باب التطويع الصحيح للدين فأصبحوا يطبقون نظريات وآراء الفقهاء السابقين وفتاواهم القديمة التي كانت محصورة أساسا أو محكومة بالزمن الذي عاشوا فيه ، فجاء التطبيق فجا مخالفا للذوق العام وغير موافق لذوق البشرية العام في الحقيقة ، وبالتالي لم يستطيعوا أن يعطوا صورة ناصعة عن الدين وعن الإسلام بالشكل الصحيح ، اختلطت عندهم الأولويات . . الأهم والمهم ، فأصبحت اللحية مسألة مهمة جدا، وأكثر أهمية من قضية التربية ، وأكثر أهمية من قضية نشر الدين في الأمم الأخرى وأكثر أهمية من الأحكام الشرعية المهمة أو الأحداث الكلية للشريعة أو للإسلام ، كالحرية التي هي من أهداف كل الديانات في الحقيقة وما أشبه ذلك . بينما احترام السلف الصالح يعني الاهتداء بتقواهم و صلاحهم و نسكهم . أما أن نأخذ نظرياتهم وآراءهم حتى في الفقه ، وفي كل شؤون الفقه ؟ لا . زمانهم يختلف عن زماننا . وثانيا فلعلهم لم يكونوا مصيبين في نظرياتهم ، كانوا أناسا متقين ، ولكن لم يكونوا عالمين بظروفنا ولا أوضاعنا، فلا يمكن أن نتبعهم .

س : لكن هناك اختلاف في المدارس السنية ، هناك طالبان نموذج ، وهناك جماعات وحركات إسلامية جديدة أخرى ؟ .

الفقيه المدرسي : أولا الحركات السنية الجديدة في الواقع لم تصل إلى مرحلة الحكم والتطبيق حتى نرى كيف يطبقون الفقه على واقع الحياة ، وحينها نستطيع أن نقيم .
الخشية أنهم يصلون إلى شيء آخر لا عن طريق الاجتهاد. وإنما نظريات كيفية . والإشكالية تكمن في خلل الارتباط بين النص الديني وبين الواقع ، حيث هذا يحتاج إلى عملية اجتهاد مستمر، مواصلة اجتهاد القديم والحديث . وإذا لم يكن بينهما حوار دائم فسيأتي التطبيق إما قديما فجاً كالطالبان أو شيئا غريبا.
للاجتهاد طبعا مدرسته وأصوله ومحدداته في المقاصد الشرعية وضوابطه . وهذه الضوابط بحاجة إلى بحث ودراسة وحوار. إن مجرد الوصول إلى الحكم لا يعني أنك تستطيع أن تطبق الإسلام . إن تطبيق الإسلام يعني مجتمع من الفقهاء يتدارسون الأمر ويبحثونه حتى يأتي التطبيق تطبيقا مقبولا وصحيحا وإسلاميا. نعم ثمة دعوات لفتح باب الاجتهاد ومحاولات للاجتهاد لكنها بعد بحاجة للمزيد من التراكم .

س : هناك تيارات ثقافية متعددة داخل الأمة وهي مؤثرة في تكوين الاتجاهات العقلية والميول الفكرية ، وتشعر بعض هذه التيارات أنها بعيدة عن الفكر والثقافة الحوزوية ، وأسباب ذلك عديدة منها مناهج الحوزة التي أتسمت بلغة خاصة وعمق في تناول الموضوعات ، وكذلك قلة الفقهاء المتصدين لهدم الفجوة بين هذه التيارات وبين المرجعية الرشيدة ، في رأيكم كيف نوجد التواصل بين الحوزة بتياراتها المتعددة ، والمرجعية الدينية ، وبين الفئات والتيارات الثقافية والفكرية ؟.

الفقيه المدرسي : في الحقيقة صراع الثقافات لن يتوقف . . فهو مستمر دائما سواء ضمن الإطار الإسلامي أو حتى خارج هذا الإطار، سواء بين التيار الإسلامي أو التيار غير الإسلامي - أي ما يسمى بالتيار العلماني - . وبسبب انفتاح المجتمعات اليوم على الثقافات المتعددة فهذا الصراع يشتد ويضعف تبعا لقدرة أي تيار ثقافي على إملاء آرائه على المجتمع وامتلاكه لوسائل النفوذ وقدرة الخطاب .
ويمكن إضافة عاملين في سيادة أو رواج التيارات الفكرية ، الأول قدرته على ركوب الموجات السياسية . لاحظوا مثلا الشيوعية إنما سادت ردحا من الزمن ، لا لصوابية فكرهم أو لأنهم أقنعوا الناس بها، وإنما لأنهم ركبوا موجة عالمية في محاربة الاستئثار – استئثار الرأسماليين والدول الكبرى بمصادر الثروة والقوة وحرمان الناس منها - ففي فترة ما بعد الاستعمار التقليدي، نشأت بوصفها دول مناهضة للاستعمار، وهذه المناهضة كانت بحاجة إلى نظرية نهضوية ، فالشيوعية طرحت تلك النظرية ، ووراء تلك النظرية جاءت نظريتهم الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية .
إن أكثر الشيوعيين لا يعرفون ماذا تعني نظرية رأس المال . نظرية ماركس في كتابه (رأس المال) أساسا هي نظرية لا يعرفها الشيوعيون فضلا عن غيرهم لكنهم ركبوا الموجه السياسية فمن وراء هذه الموجه جاء القبول العام لنظريتهم الاقتصادية . ولما جربوا هذه النظرية في واقع الحياة وجدوها نظرية باطلة غير قابلة للتطبيق أصلا وغير صحيحة فنفرت نفوسهم من الشيوعية . فلذلك الشعوب التي لم تطبق الشيوعية كانت تنظر للشيوعية بوصفها مخلصا لجميع أزماتها ومشاكلها، ولكن الشعوب التي طبقت الشيوعية اكتشفت خيبتها ورفضتها بأكملها وبجميع أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، لأنها طبقت شيء غير قابل للتطبيق .
والعامل الثاني صراع الحضارات تابع لصراع الثقافات وهو صراع دائم وأبدي. ومجتمعنا الإسلامي لأنه لا يزال مهزوما أمام الغرب ، غير ممتلك لقدراته ، غير قادر على صنع الحضارة ، لذلك نجده في عمقه مهزوما أمام ثقافة المنتصرين . أمام ثقافة المستعمرين . فالمستعمر يملي سياساته ، وهذه طبيعة البشر، أنهم يخضعون للمنتصر، ويحاولون أن يقلدوا المنتصر، أن يقتبسوا أفكاره لكي يصبحوا مثله ، لكي يعالجوا النقص الذي عندهم .
وهناك دائما فئة من الناس يلتقطون الأفكار الجيدة من الثقافات المختلفة فينتجوا ثقافة مزدوجة . شيء من الإسلام ، وشيء من العلمانية .
وهنا لا نريد أن نُخلي الحوزات الدينية والحركة الإسلامية من مسؤولية الفجوة وما أشبه ، لكن ينبغي التأكيد على أن طبيعة الصراع الحضاري بسبب تباين الثقافات والمصالح الإستراتيجية لا مناص عنه . وينبغي أن نفهم اعتراك التيارات الثقافية على أنه مظهر للصراع الحضاري.
ومن هنا نضع الكثير من المؤسسات الحقوقية ( وهي لا تخلو من فائدة ) والثقافية المدعومة من الغرب أو جهات لا ترى الإسلام نموذجا صالحا للحياة العامة . في سياق أدوات إن أكثر مراكز الدراسات هي مراكز توجيهية في الواقع وليست مراكز تحقيقية ، هي مراكز توجيه للرأي العام .
ولكن على أي حال هذا واقع موجود يجب أن نعالجه ، نعالجه بمؤسسات دراساتية أخرى وبكشف هذا التلاعب في الحقيقة بالدين عن طريق استخدام اسمه وشعاره ونصوصه في سبيل ترويج أصول ثقافية غير دينية . طبعا بعض هذه المؤسسات مؤسسات نزيهة وبعض هذه المجلات مجلات نزيهة أيضا  وبعض المفكرين بلا شك صادقون في محاولاتهم لاكتشاف الطريق الصحيح في الحياة والثقافة الصحيحة ، فلا نستطيع أن نتهم الجميع قطعا .
ومعالجة هذه الحالة في الواقع هي بالعودة إلى المدارس الإسلامية والمناهج الأصيلة . . أقول المدارس إذا استطعنا أن نوجد مناهج إسلامية مناسبة ومدارس تطبق تلك المناهج عندئذ نستطيع أن نتجاوز خطر الإعلام الموجه ضد الإسلام .
فالمثقف في جامعات العصر الحديث لا يمكن أن يفكر - إلا القليل منهم - إلا من خلال الإطار الذي درس وتعلم فيه ، إن مجرد وجود جامعة في بلد إسلامي لا يعني أن المناهج إسلامية . إذا كانت الدراسة هي وفق المناهج الغربية نفسها .
المشكلة هي المناهج ، مناهج التدريس، مناهج العلم ، مناهج الفكر. إن أهم الجامعات في العالم هي جامعة هارفارد، ليس لفروعها العلمية البحتة كالطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وإنما بسبب الفرع الإنساني.
إذا نحن بحاجة إلى تصحيح مناهج التدريس بدءا من الصفوف الأولى وانتهاء بالجامعات .

س : سيدنا ما هو دور المثقف الفقيه في هذه الحالة والحوزة العلمية في توجيه هذه الظاهرة المنتشرة في البلدان العربية والإسلامية ؟ .

الفقيه المدرسي : في الواقع إن فقدان الخطاب المناسب عند بعض علمائنا هو سبب هذه الفجوة ، الفجوة هذه موجودة في معظم البلدان الإسلامية ، طلبة العلوم الدينية لا يلتقون مع طلبة الجامعات للتواصل في الأفكار والرؤى والنظريات ، انعدام الحوار، وانعدام اللغة المشتركة وضعف الخطاب الديني، كله ضعف في أسلوب في الخطاب الديني الموجّه إلى هؤلاء المثقفين .
ولكن المشكلة أعمق ، إذ المشكلة في المناهج ، يجب تطوير المناهج الحوزوية لكي تكون قادرة على إنتاج الخطاب أو الفقيه المعاصر القادر على إنتاج الخطاب المعاصر، كما يجب تطهير مناهج الجامعات لتلتقي بالمناهج الإسلامية الأصيلة ، فتطوير في جانب وتطهير في جانب آخر حتى يلتقي الجيلان ، جيل الحوزات العلمية وجيل الجامعات العلمية أو الجامعات الزمنية ، الجامعات في بلادنا هي - في الواقع - تربي الطلاب على المناهج الغربية نفسها.
في الفروع العلمية البحتة ليس هناك شيء يوجّه الفكر وإنما الكلام في الفروع ، هذه كلها تقريبا اقتباس من المناهج الغربية ، فنحتاج إلى تطوير وتطهير. وهذه عملية شاقة تحتاج إلى علماء أفذاذ وفقهاء كبار وشخصيات تقوم بهذه العملية بشكل جيد وعبر زمن طويل ، وعبر حوارات جادة ومؤتمرات جادة ومناقشات جادة بين الفريقين أو بين المخلصين من كل طائفة - في الواقع - لتلتقي الأفكار في خط واحد. نحن بحاجة إلى جامعي متدين ومسلح بالثقافة الدينية والى عالم دين مثقف بالثقافة الحديثة .

 

نقلاً عن مجلة البصائر العدد (32)