مصحف أمير المؤمنين والترتيب النزولي

هذا دراسة لـ سماحة الشيخ سعيد الحرز دام عزه نشرة في مجلة البصائر العدد ( 25) ولعموم الفائدة قمنا بنشرها .

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أرى قبل الدخول في هذا البحث انه من الضروري جداً توضيح الموضوع الذي سأتناوله في هذه الوريقات، ان ما سأتعرض له في هذا الموجز هو موضوع خاص يتعلق بموضوع أعم منه، إن هذا المختصر يتعرض بشكل خاص إلى ترتيب القرآن من حيث السور في مصحف أمير المؤمنين المندرج تحت موضوع الترتيب السوري للقرآن ومن الواضح أن هذا الموضوع متفرع عن موضوع الجمع القرآني في زمن رسول اللهوانه هل جمع في العهد النبوي أم لا ومن أول من جمعه ثم بعد أثبات جمع أمير المؤمنين له في عهد الرسول الأكرم أثير موضوع اختلاف ترتيب مصحفه عن المصحف الموجود بأيدينا أن هذه الدراسة الموجزة تحاول تفسير الروايات التي ربما يفهم منها كون مصحف أمير المؤمنين يختلف ترتيباً عن المصحف الموجود.

إن مما لا ريب فيه بل مما هو مجمع عندنا عليه أن أمير المؤمنين هو أول من تكفل بجمع القرآن وأن مصحفه كان بخط يده وإملاء رسول الله وأنه يحتوي على ما هو أعم وأشمل من المصحف المتداول من إيضاح للتنزيل والتأويل والمحكم والمتشابه وغير ذلك مما يزيد من بيان القرآن ووضوحه. فلا بأس من ذكر بعض الروايات في ذلك.
1 ــ فعن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبدالله قال: إن رسول اللهقال لعلي: ياعلي القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه وأجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق علي فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتى أجمعه، وإن كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه، قال: وقال رسول اللهلو أن الناس قرؤوا القرآن كما أُنزل ما أختلف أثنان».

2 ــ وعن الثمالي عن أبي جعفر قال: ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلا وصي محمد.
3 ــ وعن أمير المؤمنين قال «لو ثنيت لي الوسادة لأخرجت لهم مصحفاً كتبته وأملاه عليَّ رسول الله .
4 ــ وروي أبو العلاء العطاء والموفق خطيب خوارزم بالإسناد عن علي بن رباح «أن النبي أمر علياً، بتأليف القرآن فألفه وكتبه»
5 - وفي البحار عن أخبار أهل البيت «أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه فأنقطع عنهم مدّه إلى أن جمعه»
وجمع علي للمصحف مما اتفقت عليه الأمة، يقول أبن أبي الحديد: «اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه» .

والآثار على ذلك كثيرة غير أن البعض أتخذ هذا المصحف تارة، وما يقال  عن مصحف فاطمة تارة أخرى ذريعة لاتهام الشيعة بالتحريف في الكتاب العزيز، ولكن لما كان إجماع الأمة واتفاق الطائفة المحقة على كون القرآن الكريم لم تطله يد الزيادة أو النقصان جعل دعواهم واهية لا أساس لها من الصحة، ذلك أن أتباع أهل البيت لا يقولون بأن مافي مصحف أمير المؤمنين من الزيادات هي من أصل القرآن إلا اللهم ما يقال حول ترتيبه، وأنه رُتب حسب النزول ولابد لمعرفة ذلك من استعراض جملة من الروايات التي تشير إلى ذلك:
1 ــ في أخبار أبي رافع «أن النبي قال في مرضه الذي توفي فيه لعلي: يا علي هذا كتاب الله خذه إليك فجمعه علي في ثوب فمضى إلى منزله فلما قبض النبيجلس عليُّ فألفه كما أنزله الله وكان به عالماً» .

2 ــ عن حبه العرني قال: قال أمير المؤمنين: « كأني أنظر إلى شعيتنا بمسجد الكوفة وقد ضربوا الفساطيط يعلمون الناس القرآن كما أنزل» .

3 ــ عن جابر قال سمعت أبا جعفر يقول: «ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل الا كذّاب وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى الا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده» .

4 ــ قال الشيخ الصدوق: قال أمير المؤمنين لما جمعه، فلما جاء به فقال لهم:

«هذا كتاب الله ربكم، كما أنزل على نبيكم، لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف» .
ومما يظهر أن الأصحاب الذين قالوا بأن مصحف أمير المؤمنين مرتب حسب النزول اعتمدوا في قولهم بالترتيب النزولي على كون معنى «كما أُنزل» التي تتكرر في جميع الروايات هو الترتيب حسب ما أنزل وانه أي الترتيب النزولي هو مايجب أن يكون عليه المصحف:

1 ــ قال الشيخ المفيد في المسائل السروريه - وقد جمع أمير المؤمنين القرآن المنزل بين أوّلة إلى آخره وألفه بحسب ما وجب تأليفه فقدم المكي على المدني والمنسوخ على الناسخ ووضع كل شيء منه في حقه» .

2 ــ وقال العلامة البلاغي
من المعلوم عند الشيعة أن علياً أمير المؤمنين بعد وفاة رسول اللهلم يرتد برداء إلا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله وتقدم منسوخه على ناسخه») .
3 ــ ما حكاه صاحب تفسير الصافي عن علي بن إبراهيم في تفسيره حيث قال الفيض الكاشاني: «وأنه ( أي القرآن ) ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسولوبه قال علي بن إبراهيم في تفسيره» .
أقول ليس ما بأيدينا من روايات تنص على أن معنى (كما أُنزل) هو الترتيب حسب نزوله الإ رواية واحدة وهي من غير المعصوم فهي غير حجه.
4 ــ روى محمد بن سيرين عن عكرمة قال: «لما كان بدء خلاف أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن قال: قلت لعكرمة هل كان تأليف غيره كما أنزل الأول فالأول قال: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا» .

5 ــ وفي تلخيص التمهيد:

«أوّل من تصدى لجمع القرآن بعد وفاة النبيمباشرة، وبوصيَّه منه هو علي بن أبي طالبقعد في بيته مشتغلاً بجمع القرآن وترتيبه على ما نزل، مع شروح وتفاسير لمواضع مبهمه من الآيات وبيان أسباب النزول ومواقع النزول بتفصيل حتى أكمله على هذا النمط البديع .
هذا ما أفاده بعض علمائنا الأجلاء ممن تحضرني كتبهم وأقوالهم، والذي لا يحسن أن يتجرأ عليهم المرء بالمخالفة أو أن يعارضهم بالرأي لما  لهم من المكانة العلمية الرفيعة والمقام السامي وذلك دونما دليل قوي أو مستند متين.
على أننا يمكن أن نستفيد من أقوال بعض علمائنا الذين قالوا بالجمع على عهد رسول الله كالسيد المرتض والسيد الخوئي وغيرهم على صحة الترتيب الموجود حالياً في المصاحف إذ التفريق بين القول بالتدوين والجمع على عهد رسول الله وبين صحة الترتيب السوري الموجود أمرٌ في غاية البعد إذ لا يعقل أن يرضى جميع الصحابة بهذا التغيير الفاحش في القرآن.
وهذا يؤيد ما أخترناه من صحة هذا التريب مضافاً إلى الأدلة السابق التي سقناها لذلك.
إن ما يدفعنا لإنتخاب هذا القول في مصحف أمير المؤمنين هو تلك الروايات التي تصح أن تكون روايات جمع لروايات التي تشير إلى وجود تحريف في القرآن والروايات النافية لذلك، كم أنها تفسر معنى«كما أنزل»، بخلاف المعنى الذي فهمه بعض علمائنا الكرام، إذ لاتساعد هذه الروايات على أن يكون معنى «كما أنزل» هو الترتيب النزولي بل تشير إلى معنى آخر ألا وهو وجود زيادة في مصحف أمير المؤمنين من توضيح وبيان للمراد الحقيقي والمصداق المباشر من الآية، وهو الذي يسمى عند أهل البيت بالتنزيل كما أنه يحتوي على التأويل الذي هو الامتداد الحي والدائم للقرآن على مرَّ‎ الزمن «فالتنزيل هي المناسبة الوقتية التي أستدعت النزول، والتأويل هو بيان المجرى العالم» والله العالم.وإليك هذه الروايات:
في خبر عن أبي عبدالله قال:

«وقال رسول الله: لو أن الناس قرؤا القرآن كما أُنزل ما أختلف أثنان» .
وهذه رواية تدل على أن معنى «كما أنزل» ليس بمعنى الترتيب النزولي (إذ أنه معروف وعدم ترتيب القرآن على وفقه لا يشكل اختلافاً كما أن الترتيب حسب النزول لا يرفع الأختلاف على فرض مفهوم الرواية.

2 ــ عن أبي عبدالله قال:
«لو قد قرئ القرآن كما أُنزل لألفيتنا فيه مسميّن، وقال سعيد بن الحسين الكندي، عن أبي جعفر بعد مسمّين: «كما سميَّ من قبلنا» .
وهذه الأخرى أيضاً لا تدل على معنى الترتيب النزولي من كلمة «كما أُنزل»، إذ لا تكون أسماء الأئمة موجودة مع تفسير «كما أُنزل» بالترتيب حسب النزول الأول فالأول كما لا يخفى.
3 ــ عن الرضا .

﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا   قلت: هكذا قال نقرؤها وهكذا تنزيلها» .
أيضاً هذه تشير إلى أن معنى «كما أُنزل» هو الحاق ودمج التفسير بالقرآن.

4 ــ عن ابن بناته قال: سمعت علياً يقول:
«كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة، يعلّمون الناس القرآن كما أُنزل قلت: ياأمير المؤمنين أوليس هو كما أنزل فقال: لا، محى منه سبعون من قريش بأسمائهم واسماء آبائهم وما ترك أبو لهب إلا للأزراء على رسول الله لأنه عمه» .
وهذه تفسر معنى «كما أُنزل» بأنه حذف منه ما كان مفسراً وموضحاً من مراد الآيات من أسماء الرجال.
5 ــ وفي رواية عن ابن سنان عن أبي عبدالله قال: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد وأزواجه ثم قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم ياابن سنان إنّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقصوها وحرّفوها» .
ولقد شرحنا في بحث سابق معنى النقص والتحريف وسنذكره معناه مجملاً لاحقاً.
6 ــ عن أبي جعفر أنه قال: نزل جبرائيل بهذه الآية هكذا ﴿وقال الظالمون آل محمد حقهم إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً
وقرأ أبو جعفر : ﴿لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً وقرأ أبو جعفر هذه الآية وقال: هكذا نزل به جبرئيل على محمد ﴿إن الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها وكان ذلك على الله يسيراً .
7 ــ وقال أبو جعفر نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا «وقال الظالمون آل محمد حقهم غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون .
وقال أبو جعفر نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا﴿فانّ للظالمين آل محمد حقهم عذاباً دون ذلك ولكن أكثر الناس لا يعلمون

8 ـ وقال أبو جعفر :
«نزل جبرئيل على محمد ، فأبى أكثر الناس بولاية على ألا كفورا» .
9 ــ وروي عن أبي الحسن الأول أنه قرأ «أفلا يتدبّرون القرآن فيقضوا ماعليهم من الحق أم على قلوب أقفاله .
وقرأ «وإن تظاهرا عليه فإن الله هو موليه وجبريل وصالح المؤمنين عليا» .
وهذه الأخبار أيضاً تبين معنى «كما أنزل» أنه إدخال التفسير مع القرآن وان هذا التفسير هو وحي من عند الله وان لم يكن بالصفة القرآنية.
وإحتواء مصحف أمير المؤمنين على التفسير من تنزيل وتأويل وأسماء الرجال وفضائحهم هو الذي جعل القوم يرفضون مصحف أمير المؤمنين ويقولون له: إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله، فلا حاجة لنا فيكما» .
وإلاّ فإتصاف مصحف أمير المؤمنين بكونه مرتبا حسب النزول لا يستدعي أنه يُرفض من قبل القوم كما أنه لا يُشكل مائزاً أساسياً لمصحفه عن المصاحف الأخرى خاصة إذا عرفنا ان الترتيب حسب النزول ليس مستعصياً على من عاصر الرسول وكتب وصي السماء إليه في حينه
فحمله وولى راجعاً نحو حجرته وهو يقول:
«فبنذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاىً فبئس ما يشترون»
يقول الإمام الباقر في رسالته التي كتبها إلى سعد الخير: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» .
فالتحريف الذي طال القرآن الكريم هو تحريف اللفظ عن معناه بإتجاه تفسير آخر غير المراد من الآية مع ابقاء اللفظ والحرف على كيفيته الأصيله التي نزل بها الوحي، هذا ما يفهم من إقامة الحرف وتحريف الحد بخاصة بعد تماميه دليل عدم وقوع التحريف في القرآن.
وأما دعوى أن الترتيب النزولي ليس هو الصفه الوحيد التي أمتاز بها مصحف أمير المؤمنين وان هناك عدة صفات أشارت إليها هذه الروايات فهي تثبيت شيئاً ولا تنفي آخر هو الترتيب النزولي.
فاننا نقول أن هذه دعوى لا شاهد لها حيث أن الروايات التي بأيدينا لا تساعد على أثبات هذه الصفة في مصحفه إذ لا توجد رواية تدل على أنه كان مرتباً نزولاً أو تفسير كلمة (كما أنزل) بالترتيب حسب النزول إلا اللهم مفاد إطلاق «كما أنزل» الشامل للترتيب النزولي.
نعم هناك رواية تنص على أن الإمام المهدي إذا قام بالأمر ضرب الفساطيط يعلم الناس القرآن على ما أُنزل الله ويخالف فيه التأليف، ولكنها أعم من المدعى إذ إضافة التفسير ودمجه هو أيضاً خلاف لتأليف القرآن الموجود المجرد عن هذه العبارات المتوسطة بين الآيات والتي توضح معناها وتبين المراد منها.
فعن الإمام الباقر : «إذا قام القائم من آل محمد ضرب فساطيط لمن يعلم الناس القرآن على ما أنزل الله عزوجل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم لأنه يخالف فيه التأليف» .
ونقول أنه لا شك أن معرفة الترتيب النزولي مما يساعد على فهم معان القرآن الكريم ومناسباته، ولعل المصلحة تقتصي أن يُعلّم الإمام المهدي الناس القرآن على ترتيب نزوله لإيضاح لمراد وبيان المعنى.
أن دافع القائلين بالأحتجاج على الترتيب السوري في القرآن الموجود والذي يفهم من مطاوي كلام البعض انما كان ناشئاً من الأعتقاد بوجوب ترتيب القرآن حسب النزول لا حسب ما هو موجود ومثبت في اللوح المحفوظ.
يقول تعالى: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» .
وهذا الوجوب لا شاهد عليه ولا دليل يؤيده ولم نجد مستنداً يثبته ولا شك أن القرآ كان ينزل منجماً وحسب المناسبات ولاوقائع لا حسب وجوده العالي في اللوح ولهذا أقتضى ترتيبه على وفق ذلك الوجود لا على وفق النزول إذ لو قلنا بلزوم الترتيب حسب النزول لكان الأشكال يتأتى حتى في ترتيب الآيات نفسها في السورة الواحدة إذ هي في الجملة غير مرتبة نزولياً كما لا يخفى.
يبقى أن نقول رغم ما قدمنا من أدله، أن مصحف أمير المؤمنين حتى ولو كان مرتباً حسب النزول ــ بما يشمل حينئذ حتى ترتيب الآيات بلا كلام ــ فهو ليس بديلاً عن القرآن الموجود بالفعل بين أيدينا إذ أنه لا شك ترتيب رسول الله من فعل وحي السماء واقرّه الإمام علي ومن بعده الأئمة الأطهار أقرّوه في التلاوة كما في العمل، فيكون على ذلك مصحفه هو مصحف فيه زياده بيان وأيضاح مما يعصم القرآن من التحريف في المعنى ــ كما هو واقع بالفعل عند القوم نموذج تفسير (عبس وتولى) وآية الإفك وآيات آخرى.
وهذا ما يوضح الأحاديث التي تشير إلى أن أمير المؤمنين سيقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول الله على تنزيله إذ هو العالم بتأويله العارف بمقاصده المحيط بجميع ما جاء فيه إذ هو القرآن الناطق.
فعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول اللهيقول: «إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» قال أبو بكر: أنا هو يارسول الله؟ قال (لا، ولكن خاصف النعل» وكان أعطى علياً نعله يخصفها أخرجه أبو حاتم كما أن ما فسرناه في مصحف أمير المؤمنين يبين حقيقة قول الرسول الأكرم.
(علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض) .
وهذه نتيجة طبيعية لمن يعرف القرآن (كما أنزل) على أنه سيأتي معنى عدم اقتراف علي مع القرآن حتى ورودهما الحوض على الرسول الأعظم.
وعن أنس قال: قال النبي: عليّ يعلم الناس بعدي من تأويل القرآن مالا يعلمون» .
وقد روي عنه قوله:
«سلوني عن كتاب الله فوالله ما منه آية إلا أنا أعلم أين نزلت بليل أو بنهار أو بسهل نزلت أو جبل» .
وفي رواية آخرى «فو الذي نفسي بيده ما نزلت آية إلا وأنا أعلم بها أين نزلت وفي من نزلت في سهل أم في جبل أو في مسير أم في مقام» .
وعلى ضوء ذلك نقول ان مصحف أمير المؤمنين الذي أشارت إليه جملة من الروايات كان يتميز بعده أمور:
1 ــ أنه بإملاء رسول اللهوخط أمير المؤمنين مما يجعله في غاية الدقة.
2 ــ أنه به القراءة الصحيحة التي جاء بها الوحي، ونطق بها الرسول.
3 ــ أن به بيان وإيضاح من شأنه أن يؤلف الأمة ويمنع الختلاف لإحتوائه على بيان الحلال والحرام والحدود والأحكام وكل ما تحتاجه الأمة إلى يوم القيامة.
4 ــ إحتوائه على بيانٍ يوضح معنى الآية بحيث لا تُفسر تفسيراً مغايراً لمارد الآية.
وهذا بأمور:
أ ــ اشتماله على إثبات المناسبة التي نزلت فيها الآية والمكان والزمان اللذين نزلت فيهما الآية كذلك الأشخاص الذين قصدوا بالنزول سواءً كانوا أهل الحق أو أهل الباطل وهذا هو المراد بالتنزيل.
ب ــ توضيح المجاري العامة والامتداد الزمني للآيات التي يمكن أن تنطبق على كثير وهذا هو المراد بالتأويل عند أهل البيت، إذ أن التأويل من إرجاع الشيء إلى أوله وإرجاع الكلمة إلى معناها الأولي هو بيان مجرها العام.
ج ــ يتضمن علم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.
وهنا يبقى سؤال أين هو مصحف أمير المؤمنين.

يقول صاحب البحار:
«أن مصحفه يتوارثه أوصياؤه الأئمة من بعده واحداً بعد واحد ولا يرونه أحداً».
وعن الحسن بن علي قال:
«نحن نقول أهل البيت: إن الأئمة منا، وإن الخلافة لا تصلح إلاّ فينا وإن الله جعلنا أهلها وكتابه وسنة نبيه وإن العلم فينا ونحن أهله وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، وإنه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب باملاء رسول اللهوخط عليّ بيده» .
وفي رواية سليم:
ثم قال طلحة: فأخبرني عمّا في يديك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال إلى الذي أمرني رسول اللهأن أدفعه إليه وصييّ وأولى الناس بعدي بالناس أبني الحسن ثم يدفعه إلى إبني الحسين ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم على رسول اللهحوضه، هم مع القرآن لا يفارقونه. والقرآن معهم لا يفارقهم» .
وهذه الرواية تبين معنى قول الرسول الأكرم «علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض» بل تبين قوله .
«إنني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأنهما لا يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» .
وهذا ما يوجب الرجوع إليهم في أحكام الشريعة وفهم القرآن ومعرفة حدود ما أنزل الله ذلك أن فعلهم وقولهم ملازم للقرآن لا يفترق عنه أبدا.
يقول الإمام الصادق:
«ما يستطيع أحدٌ أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء» .
وكان أبوه الإمام الباقر يقول:
«إذا حدَّثتكم بثنيء فاسألوني عنه من كتاب الله» .
هذا وقد أختار بعض علمائنا هذا القول في القرآن الكريم وفي خصوص مصحف أمير المؤمنين من أنه لا يختلف عن القرآن الموجود بين أيدينا إلا في استحالة على الإيضاحات التي ذكرناها سابقاً في خصائص مصحفه .

1 ــ يقول السيد الشيرازي أعلى الله مقامه في موسوعته:
«لا يجوز تغيير نظم القرآن عما هو عليه الآن، لا بأن تجعل سورة كذا قبل أو بعد سوره كذا، مما كتب في المصاحف انها زلت بعد سورة فلان أو قبل سوره كذا.. ولا بأن تجعل آية كذا في المكان الذي ورد في التفاسير، أنها كانت في مكان كذا، ثم لا نجدها الآن نحن في ذلك المكان المعين، وذلك لأن هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي قرره الرسولبأمر الله تعالى، وكان نزوله في الأصل بهذا الأسلوب الذي نجده الآن، وأنما نزل منجماً بتقديم وتأخير في ثلاث وعشرين سنة، كما يذكر في التفاسير ولذا ورد أنه كلما نزل شيء من القرآن قال الرسولأجعلوه في موضع كذا» .
ويضيف السيد الشيرازي :
«ولا يوجب تغيير المدون عن أسلوبه إلى أسلوب الإظهار كما لا يجوز زيادة شيء في القرآن حتى النقطة ــ والفتحة وما أشبه، لأن اعتقادنا الذي قام عليه امتن البارهين ان لم يغير القرآن أبسط التغيير وبعض الروايات الظاهرة في التغيير يراد به التفسير والتأويل كما يظهر من كلام علي وغيره»

2 ــ الشيخ جعفر السبحاني (حفظه الله)
«ولا يستعبد أن ترتيب القرآن لدى الإمام كان طبقاً للقراءة الشائعة في ذلك الزمن. من المسلم به أن قرآن الإمام كان مشتملاً على حواشي وتوضيحات عن كيفية النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم المتشابه» .
3 ــ يقول الفيض الكاشاني في تفسير:  «ولا يبعد أيضاً أن يقال أن بعض المحدوفات كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من اجزاء القرآن فيكون التبديل من حيث ال عنى أي  والبيان ولم يكن من اجزاء القرآن فيكون التبديل من حيث المعنى أي حرفوه وغيروه في تفسيره وتأويله أعني حملوه على خلاف ما هو به فمعنى قولهم كذا نزلت أن المراد به ذلك لا أنها ن روحه:
«وما رواه العامة أن علياً كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ومعلوم أن الحكم بالنسخ لا يكون إلا من قبيل التفسير والبيان ولا يكون جزءاً من القرآن فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً كذلك»
إن هذا المبحث على أهميته القصوى وما يفضي إليه من نتيجة هي في غاية الضرورة وربما الخطورة حري به أن يستدعي إهتمام الباحثين وذوي الشأن، كما يتطلب اطلاع المثقفين الذين يصبون إلى أوسع المعارف وأعمقها خاصةً إذا تعلق الأمر بالقرآن الذي هو أهم وأعمق رافد معرفي يتعلق بالأمة وبهويتها ومنه تأخذ معالم شخصيتها ولن يكون البحث في هذا الموضوع بحثاً تراثياً جامداً يثير دفائن التاريخ ويستدعي مقولاته دونما عائدٍ معاصرٍ نتلمسه في حاضرنا ونحتاجه في يومياتنا.
إن هذا لنمط من الدراسات يقوم بوصل الماضي بالحاضر لا العكس ــ ان صح التعبير ــ كما يسعى إلى تأصيل الوجه المعرفي لنا في زمن أحوج ما نكون فيه للتأصيل الثقافي والفكري، كما انه يشحن ثقافتنا بالطاقة المحركة التي تدفعنا نحو غد أفضل.

وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين
 


عالم دين ( أم الحمام )