بلى هي مصالحة عراقية وطنية ! يا سيد عبد الباري عطوان

 

في مقالته المنشورة في الكترونية "دنيا الوطن" يحكم الكاتب الصحفي المعروف الأستاذ عبد الباري عطوان بالفشل على مبادرة الجامعة العربية الحالية في العراق و يعلل ذلك بأنها مبادرة غير عربية و لا تتماشى مع الثوابت العربية!!
ومثل هذا الحكم المبكر من كاتب معروف قد يوقع في روع الكثيرين أنه مطلع بحسب موقعه و محل أقامته في لندن على أمور كثيرة لها صلة بالشأن العراقي و الشأن العربي في العراق, و هو ثبت عكسه من خلال المبررات التي ساقها الكاتب لتبرير هذا الحكم القاسي والظالم على هذه المبادرة الجريئة للعرب في عراقهم العزيز.
فهو دائماً يصف الحكومة الحالية في العراق بأنها غير شرعية لأنها جاءت نتيجة مخاض سياسي أمريكي بحت و أنها ولدت على أيد أمريكية فجاءت مشوهة. و فجأة تصبح هذه الحكومة شرعية مائة بالمائة و لدرجة أنه بمجرد أن يصرح المتحدث الرسمي باسمها عدم حاجة العراق لمثل هذه المبادرة فهي مرفوضة عراقياً.
صحيح أن الوفد العربي لم يتسنى له الاجتماع برئيس الوزراء العراقي الدكتور إبراهيم الجعفري و لا بالشيخ عبد العزيز الحكيم و لا زار السيد علي السيساني و هم أقطاب الوجود و النفوذ الإيراني في العراق. و لكن تبقى تصريحات الرجل تمثل وجهة نظرة الخاصة لأن الحكومة في العراق لم تعد تعني ما تعنيه لنا حكومة بالمفهوم التقليدي السائد في العالم العربي. ولعل الخلاف الأخير بين رئاسة الجمهورية و رئاسة الوزراء في العراق هو دليل كاف على المفهوم الجديدة للحكومة و الذي ترسخ حتى الآن في ثلاث كيانات عربية هي العراق و لبنان و فلسطين.
وبالتالي فإن ما حققته الزيارة من استقطاب لأطراف عراقية فاعلة يبشر بخير كثير للعرب وللعراق و ليس أقله تصعيد الصوت العربي العقلاني في العراق بعيداً عن أصوات التفجيرات والمفخخات التي يقودها الزرقاوي و أتباعه في العراق و بعيداً عن صوت آلة الحرب الأمريكية الذي تراجع كثيراً مع وصول وفد الجامعة للعاصمة العراقية.
حتى الأكراد الذين ربطتهم بالعروبة أواصر الدم و التاريخ و المصاهرة و المواطنة الواحدة تحركوا من قمة هرمهم و سارعوا إلى عرض بعض التعديلات المهمة على ضعفها في نص الدستور العراقي المقترح للتصويت عليه في منتصف الجاري و تجعل منه دستوراً مؤقتاً قابلاً للتعديل من البرلمان المنتخب على أساس هذا الدستور.
و لا أدري ما هي الثوابت العربية التي يتحدث عنها الأستاذ عبد الباري عطوان و هل يقصد بها تحكم نظام عربي بنظام عربي آخر كما كان واقع الحال من النفوذ و الوجود السوري في لبنان و ما ترتب عليه من تآكل هيكلية و وجود الكيان اللبناني و دفعه للاستنجاد بالغرب القديم "فرنسا" و الغرب الجديد " أمريكا" كي يتخلص من الاحتلال السوري للبنان و إن كلفه هذا جزءاً كبيراً من سيادته واستقلاله.
وهل يقصد بالثوابت العربية المحافظة على النظم الطاغوتية التي تحكمت في رقاب الشعوب لعقود عديدة و كأنها أصبحت قدرها المقدور مثل نظام صدام حسين الذي حول العراق إلى مقبرة كبيرة لابناءه و لأبناء الشعوب من حوله فأصبح العراقيون لديهم وطن كبير و غني ومعطاء و رغم ذلك لم يستطيعوا أن يكونوا دولة بمعنى الكلمة تماماً كما هو الحال بالنسبة لكثيرين من العرب.
وإذا كانت المصالحة بين العراقيين غير ضرورية من وجهة نظر الكاتب أصلاً فلماذا يلوم من فكر بها و أقدم عليها في هذه الظروف الصعبة و يعتبره ترساً في عجلة السياسة الأمريكية بالمنطقة.
ولعل المبرر الذي يسوقه الكاتب كأساس لنسف الحاجة للمصالحة على أنها مصالحة بين عراقيين يرفضون الاحتلال و عراقيون يقاتلون إلى جانبه هو مبرر واهي و ضعيف و إلا ما ذا يمكن تسمية العنف و الإرهاب والقتل على الهوية المذهبية و المناطقية التي يتعرض لها العراقيون في كل مناطق العراق. صحيح أن هناك من يرفض الاحتلال في العراق و إن هذا هو الواقع فهم كل العراقيون بغض النظر عن عرقهم و مذهبهم و محل سكناهم و هذا ما عرفه القريب و البعيد عن شعب كشعب العراق. و إلا كيف يفسر الكاتب الثورات المتكررة و العنيفة التي أشعلها شعب العراق على مر التاريخ في وجه محتليه و غاصبي ترابه الوطني من زاخو في الشمال و حتى البحر في الجنوب كما يسميه العراقيون.
واتهام الجامعة العربية بأنها هي المسئولة عن تدمير العراق في العام 1990 هو مجرد تفصيل في التاريخ لا يجدي نفعاً مع الحقائق التي تولدت على الأرض من التاسع من أبريل عام 2003 و حتى الآن. و هي جملة من الحقائق يصبح الهروب من التعامل معها مجرد هروب من الحقيقة إلى وهم الخيال الذي يسكن في عقول معتنقي مبدأ عقدة المؤامرة و هم كثيرون بيننا.
فالجامعة العربية حاولت أقناع صدام بالخروج من الكويت لتجنب ضربة أكيدة لا تبقي و لا تذر. و هي التي منعت الدخول إلى أراضي العراق حسب حدوده الدولية بعد نهاية الحرب و يأخذ الكثيرون على الجامعة من داخل العراق و خارجه وقوفها إلى جانب نظام صدام طول هذه الفترة من ظلمه و تسلطه على شعب العراق و جيران العراق.
المأزق في العراق ليس أمريكياً فقط بل هو مأزق عربي و مأزق عراقي و مأزق لأمة الإسلام تماماً كما هو مأزق أخلاقي لكل مؤمن بالعدالة و الحرية و حق الشعوب في تقرير مصيرها و الشعب العراقي واحد منها. و محاولة الخروج من هذا المأزق هو هدف إنساني وقومي و وطني نبيل و من الدرجة الأولى رحمة بنا و بشعب العراق و بكل شعوب المنطقة.
أما الحديث عن الدور السعودي و محاولة تشويهه فهو ظلم للمنطق و انتهاك صارخ للحقيقة على ضوء كل الدعم الذي قدمته السعودية للعراق في حربه الطويلة غير المبررة مع إيران و المناقشة فيه يعيدنا إلى الحديث في قضايا "الولاء و البراء" و التاريخ و تحكيمه من خلال الماضي في حاضر المنطقة و مستقبلها. و موقف السعودية الحالي هو موقف أخلاقي من الدرجة الأولى ينصب في اتجاه المحافظة على العراق و شعبه بعيداً عن الأطماع الفئوية و المذهبية و الإقليمية التي تتربص الفرصة للانقضاض عليه خاصة إذا بقي ضعيفاً و معزولاً عن جواره و عمقه العربي. هذا العمق الذي يتخطى و يتجاوز حقيقة هزيلة مؤداها أن سنة العراق أقلية فيه و لكنها ينتمون إلى أكثرية تسود المنطقة يستوجب حضورها على الساحة العراقية في غير الصورة المذهبية الضيقة التي يمثلها الزرقاوي وجماعته.
أما البكاء العربي على عروبة العراق و الخشية من تمزيقه فهو أمر مؤكد و مبرر لأن الجوار العراقي واقع جغرافي و ديمغرافي و مذهبي لا يمكن تغييره وتعديله في حين أن الوجود الأمريكي في العراق إلى زوال لأسباب أمريكية داخلية سياسية و أمنية و اقتصادية.
و العراق مريض قبل الاحتلال و بعده أما قبل الاحتلال فكان مرضى لا شفاء منه خاصة على أيد عربية غضت الطرف عن ممارسات النظام المقيتة في حق الشعب العراق بكل أطيافه و أعراقه و مذاهبه. أما الاحتلال الأمريكي فكان بمثابة الصدمة أو التدخل الجراحي الذي يأتي بعد الشفاء المؤكد و إن طالت فترة النقاهة و التعافي منه.
أما الإحجام العربي عن إدانة الاحتلال الأمريكي في العراق فهو تحصيل حاصل لا يقدم ولا يؤخر على ضوء ما عرفناه من سياسة الإدانة و الشجب بقوة و اقوي العبارات في مواجهة واقع دولي وعربي لا يمكن تغيير معطياته بسهولة. ويزداد هذا المنطق قوة على ضوء الاحتمالات الكارثية التي سيتعرض لها الواقع العراقي في حال الخروج الأمريكي من العراق وهو ما يبرر عزوف أشد الناس عداوة للوجود الأمريكي عن المطالبة بذلك على الأقل في الوقت الراهن.
و لا يمكن لنا أن نتمنى هنا سوف التوفيق و النجاح للعراق و للعرب و لجيران العراق من غير العرب حتى و إن تحقق على أيد أمريكية , أما تمني أن يقع من حفر لأخيه حفرة أن يقع فيها فهذا تفكير غير مقبول و رؤية سوداوية بغيضة لا تحمل خيراً للعراق و أهله و جيرانه و تتمنى انتشار الفوضى و الدمار في كل المنطقة لا سمح الله.