ألوان المجتمعات البشريةفي القرآن الكريم

نحو ثقافة قرآنية (6)

 

أشكال المجتمعات البشرية:
تتخذ المجتمعات البشرية أحد أشكال خمسة:
1- المجتمع الراكد.
2- المجتمع السائر نحو العلو.
3- المجتمع العالي.
4- المجتمع السائر نحو التسافل.
5- المجتمع السافل.

  • ألوان المجتمعات البشرية في القرآن الكريم

عرض القرآن الكريم صورة مجتمعات خاملة راكدة لا تتحرّك، كما عرض صورة أخرى لمجتمعات في بداية التفتح والتفتق وقد أخذت بعناصر الفاعلية والازدهار، وصوّر مجتمعات ثالثة وقد بلغت مرحلة النضج والقوة، وصوّر رابعة وقد بدأت عوامل النخر والهدم تعمل فيها، وصوّر خامسة وقد أصبحت سافلة.

وفيما يلي سنعرض لهذه الألوان الخمسة وبعض نماذجها القرآنية:

1- المجتمع الراكد:

ذكر القرآن الكريم مجتمعات راكدة ساكنة (إستاتيكية) لا تكاد تتزحزح عن مكانها، ولا تكاد تقوم بحركة فاعلة نحو النهوض، ففي رحلة ذي القرنين شهد ثلاثة مجتمعات: أولها يعيش التردي الاجتماعي والقيمي (الركود الاجتماعي): ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا(1)، وثانيها: يحكي مستوى طفولياً بدائياً في جانب المنجز العملي (الركود العملي)، فهو يعيش في بدائية الفعل والإنجاز والتقانة، حتى أنّه ليس لديه ما يستظلّ به من الشمس: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا(2)، وثالثها: يحكي مستوى طفولياً في جانب العلم (الركود المعرفي)، فهو يعيش في مهد الطفولة المعرفية، بحيث لا يكاد يفقه قولاً!!: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً(4).

إنّ سبب الانحطاط لدى هذه المجتمعات الثلاثة هو عدم الأخذ بالأسباب، وذاك جعل النموذج المجتمعي الأول متدهوراً ومتردياً في حمأة الانحطاط القيمي والاجتماعي، والنموذجين المجتمعيين الأخيرين راكدين لا يعيشان الحِراك الاجتماعي، والمساهمة في الإنتاج العملي والعلمي، وهو الأمر الذي يجعل القرآن الكريم في سياق عرضه لقصة ذي القرنين هذه يؤكد على دور ذي القرنين في اتباع الأسباب، ويذكر ذلك أربع مرات: تنتظم الأولى ضمن عوامل التمكين التي أتاحت له السيطرة ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(5)، وتأتي الثانية قبل نقل صورة المجتمع الأول (المتردي اجتماعياً): ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا.... (6)، وترد الثالثة قبل نقل صورة المجتمع الثاني (الراكد عملياً): ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ ... (7)، وتقع الرابعة قبل نقل صورة المجتمع الثالث (الراكد علمياً): ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ.... (8).

وبإمكاننا أن نعيد ذلك إلى شكلين هما: الأخذ بالأسباب، حيث أتاح التمكين في الأرض لذي القرنين، وعدم الأخذ بالأسباب، حيث أدى بالمجتمعات إلى التردي والركود: فأودى بمجتمع إلى الركود الاجتماعي، وبمجتمع آخر إلى الركود العملي، وبمجتمع ثالث إلى الركود العلمي، فهو تقابل بين مجتمع ذي القرنين الناهض، ومجتمعات مقابلة متردية وراكدة.

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ الشاهد الاجتماعي - هنا - هو المجتمعان الراكدان اللذان لقيهما، أما المجتمع الثالث (المتردي)، فهو مما يدخل في المجتمعات (السافلة) المنحطة، ومجتمع ذي القرنين آنذاك كان مثالاً للمجتمع (العالي).

2 - المجتمع السائر نحو العلو:

 كما ذكر القرآن الكريم مجتمعات كانت راكدة أو سافلة لكنّها أخذت بمقوّمات النهوض فمثّلت المجتمعات السائرة نحو العلو..، المجتمعات المتحرّكة الفاعلة (الديناميكية)، ومجتمع النبي يونس يشكل النموذج القرآني الأبرز: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(9).

3- المجتمع العالي:

وقد ذكر القرآن الكريم مجتمعات عالية بحيث وفّرت لنفسها شيئاً من عناصر الرفعة والقوة النسبية التي أتاحت لها شيئاً من البروز على مسرح التاريخ:

أ- فبعضها ذو استقرار أمني ورفاه اقتصادي: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(10).

فهذه القرية قبل أن تكفر كانت تعيش الأمن والاطمئنان والرغد الاقتصادي: ﴿قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ.

ب - وبعضها الآخر ذو قوة وسيطرة على الطبيعة من حوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(11).

حتى أنّ قوم (عاد) بنوا البنايات المرتفعة في الطرق (مصانع)، يعبثون بها وبالمارّة، كما بنوا الحصون والقصور والحياض والترع، وأشادوا البساتين والزروع، وحظوا بالسطوة والرفاه الاقتصادي: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(12).

ج - وبعضها ذو تقدم عمراني، بحيث أشاد بناياته بصورة شهد الله أنّه لم يكن في مستوى العمران البشري السابق مثله: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(13)، والبعض يرجّح أنّ (إرم) هذه مدينة بنتها قبيلة (عاد) التي رأيناها في الصورة السابقة وقد أشادت المصانع والحصون والزروع، وشقت الحياض والترع.

د - وبعضها ذو قدرة على مغالبة صلابة الطبيعة وشدتها، ففي حين كانت الأمم تبني بيوتها من خشب الشجر، أو من الطين والتراب والحجر، كان الناس في (ثمود) يبنون بيوتهم نحتاً في الجبال الصخرية، ويستصلحون الأراضي ويشيدون عليها البساتين اليانعة الثمار، ويفجّرون الصخور الصمّ ماء وعيوناً: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(14)، ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(15).

هـ - وبعضها ذو مكنة وسعة في الأخذ بالعوامل، بحيث وفّر لنفسه كلّ سبل القوة الموجودة في زمانه، ومن هذا مملكة سبأ في أيام بلقيس التي يقول عنها الذكر الحكيم على لسان الهدهد الذي نقل صورتها للنبي سليمان : ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ(16).

وتقف جملة ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ بدلالتها المفتوحة؛ لتشمل الإمكانات والقدرات الواسعة التي رسّخت تلك المملكة، وتدلل على حيازة كلّ أشكال الاقتدار والتمكين المتوفرة في زمانها، في حين تأتي جملة ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ لذكر شيء من المنجز المتحقق فعلاً لديها.


بيد أنّ هذه المجتمعات حظيت برفعة نسبية وتقدماً في بعد أو جانب، لكنّها لم توفر عنصر الرفعة الأهم - وهو القيم التي يحققها الدين -، فمتعها الله إلى حين، ثمّ دمّرها، وكان مآلها الفناء.

4- المجتمع السائر نحو التسافل:

وذكر القرآن الكريم مجتمعات كانت عالية، ثمّ سارت نحو التسافل والتردي؛ لأخذها بعوامل النكوص والتدهور والكبوة والسقوط:  كالتسافل العقدي والاقتصادي، ومن هذه المجتمعات: مجتمع سبأ الذي كان عامراً ثمّ انحدر وارتكس: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ(17).

ومن نماذج المجتمعات السائرة نحو التسافل ما عبّر الله - سبحانه وتعالى - عنه فقال: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(18).

فهذه القرية (المجتمع) كانت تعيش في استقرار مكاني ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً، واستقرار اجتماعي وسياسي ﴿آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً، وكانت تنعم بالرفاه الاقتصادي والتبادل التجاري ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ، ثمّ دخل الخلل القيمي العقدي ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ، والخلل في دائرة الفعل والعمل ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ، عاملين سارا بها نحو التسافل ﴿فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.

 5- المجتمع السافل:

كما ذكر القرآن المجيد مجتمعات سافلة وصلت إلى مستوى التردي والانحطاط: كالانحطاط الأخلاقي الذي خيّم بجناحه الحالك على قوم لوط: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ( )، وساق القوم إلى الفناء والزوال: ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(19).

وهكذا.. فالقضية مربوطة بعناصر ولادة، وعناصر بروز، وعناصر موت، وتسير وفق سنن وأسباب، وقد تطول المدة أو تقصر، ولكنّ السنن تبقى عاملة.

 

(1) سورة الكهف، الآية 86- 87.
(2) سورة الكهف، الآية 90.
(3) سورة الكهف، الآية 93.
(4) سورة الكهف، الآية 84.
(5) سورة الكهف، الآية 84- 85.
(6) سورة الكهف، الآية 85- 86.
(7) سورة الكهف، الآية 92- 93.
(8) سورة يونس، الآية 98.
(9) سورة النحل، الآية 112.
(10) سورة الروم، الآية 9.
(11) سورة النمل، الآية 23.
(12) سورة الفجر، الآية 7- 8.
(13) سورة الشعراء، الآية 128- 134.
(14) سورة الفجر، الآية 9.
(15) سورة النمل، الآية 23.
(16) سورة سبأ، الآية 15- 16.
(17) سورة النحل، الآية 112.
(18)سورة الأعراف، الآية 81.
(19)سورة هود، الآية 82- 83.